لم يكن محض صدفة أن يحتوي التراث الأدبي والقصصي وحتى الشعبي العربي على قصة أو إشارة أو أثر إلى الباغيات اليهوديات، وأشهرها تلك القصة للباغية التي دخلت الجنة بسبب كلب سقته بأحد خفيها، كما لم تكن صدفة أن تكون هذه الباغية يهودية، بل كان التوكيد على ديانتها من تمام سرد القصة. كما أن ذلك لم يكن نكاية أو حقدا أو تشفيا، بل كان ذلك إنعكاساً للإرث الديني التوراتي الذي شاع في الأوساط العربية في شتى مجالات نشاطها. وكما غزت الروايات الإسرائيلية كتب الرواية وسيطرت قصص الأولين على كتب التاريخ عندنا، جاءت قصص من التراث الشعبي اليهودي إلى تراثنا كي تخبره عن فتنة النساء اليهوديات، ولا أقصد الغانيات منهن وبنات الهوى فقط، بل كل النساء اليهوديات.
نعم كل النساء يدخلن في دائرة الغواية والفساد بل في دائرة البغاء وذلك حسب المعتقد الديني التوراتي، فهن فاسدات مفسدات ما لم تضرب عليهن. لذا ضرب عليهن الخمار الأسود من قمة رأسهن إلى أخمص قدميهن وصرن تبعا للرجال وتحت وصايتهم، فقد احتوت أسفار العهد القديم على الكثير من التحقير والإهانة للمرأة الإسرائيلية واصفة إياها بأقذع الألفاظ.
وقد يصاب المرء بالدهشة والاستغراب من هذه الغلظة ومن هذا التحقير وكأن شآبيب نار جهنم ما خلقت إلا للمرأة. ولا أدعي أن هذه الدهشة والحيرة سوف تزول عندما يطلع القاريء للأسفار، بل سوف تزداد وتتعاظم عندما يعلم أن "البغاء المقدس" أو "النكاح السماوي" هو الذي أصّل وجذّر إلى النظرة الدونية والمنحطة للمرأة، وبالتالي هي نظرة دينية وتوراتية يتعبد المؤمن اليهودي بها الى "يهوه" و يتبع تعاليمه التي سطرها الكتاب المقدس.
من كتاب العهد القديم تطالعنا قصة انحراف أشهر باغية "إسرائيل" مرت على تاريخ الشعب اليهودي، فقد تزوج يهوه (الإله) إسرائيل (شعب بني إسرائيل) وأضحى لها بعلا، هذا ما تقوله أسفار التلمود!، لكن إسرائيل هجرت يهوه وضاجعت كل بعل للجبل المصنوع من الحجر، هكذا صورت أسفار التلمود إنتكاص بني إسرائيل عن ديانة التوحيد وعبادتهم الأوثان، فاختلطت الأسطورة بالواقع وكان ضحيتها المرأة التي جسدت اسم الأنثى "إسرائيل".
صورة من صور (انصراف إسرائيل عن يهوه إلى بعل) صورة مرمزة للطقوس الدينية جاءت على شكل خيانة الزوجة (الأرض) للزوج (السماء) الرامزة إلى التنافر بين عقيدة التوحيد والوثنية، من خلالها تُصوّر تزاوج السماء بالأرض مجسدة بالوحي السماوي بعد "التجلي والرؤية و المكالمة"، صوّرت كلقاح الآلهة المقدس واستخلاصها لأهل الأرض برسالة التوحيد. كل ذلك متمثل ومرمّز بالزواج بين الإله والشعب عبر نبوة أنبياءه "النكاح" الذي طفحت به كتب أساطير الشعوب والكتب السماوية القديمة.
يقول البعض إن هذا المعتقد هو من ترسبات المعتقدات الوثنية التي جاءت في فترات ضمور الديانات السماوية، وقد دخلت هذه المصطلحات في التراث الديني حتى غدت الميثولوجيا الدينية بما فيها الإسلامية لا تخلو منه، فقد تمت قراءة التراث الديني السماوي بلغة أهل الأرض، فغالبا ما تكون مفردات ومصطلحات الكتب السماوية مركبة المعاني وبعضها مؤوّلة المعنى (كهنوتية) تفقد معانيها حال ترجمتها أو قراءتها من قبل غير أهلها أو من قبل غير المطلعين على علومها ولو كانوا من أهلها.
ومثال على هذا الزواج المقدس والطلاق، أو قل النشاز الحاصل من جهة "الزوجة"، ما ورد في التلمود، الإصحاح الثالث من سفر أرميا حيث ورد في فقرات متعددة منه ما هو نصه:
"هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل ؟! انطلقت إلى كل جبل عال،،، وزنت هناك! فقلت: بعدما فعلت كل هذا، إرجعي إليّ فلم ترجع! فرأت أختها الخائنة يهوذا فرأيت أنه لأجل كل الأسباب إذا زنت العاصية إسرائيل، فطلقتُها وأعطيتُها كتاب طلاقها،،،.
لكن ارجعي إليّ يقول الرب! إرفعي عينيك إلى الهضاب وانظري أين لم تضاجعي؟ في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية ونجست الأرض بزناك و بشرّك،،،، جبهة امرأة زانية كانت لك! أبيت أن تخجلي! ألست من الآن تدعينني يا أبي أليف صباي أنت؟،،،،،
لم تخف الخائنة يهوذا أختها بل مضت وزنت هي أيضا وكان من هوان زناها أنها نجست الأرض وزنت مع الحجر ومع الشجر وفِي كل هذا أيضا لم ترجع إلى أختها الخائنة يهوذا بكل قلبها بل بالكذب يقول الرب!، فقال الرب لي: قد برّرت نفسها العاصية إسرائيل أكثر من الخائنة يهوذا، وحقًّا إنه كما تخون المرأة قرينها هكذا خنتموني يا بني إسرائيل، يقول الرب."
وليس مستغربا أن يأتي هذا النص المليء بالحسرة و بالغدر و بالذم بهذه اللغة المرمزة و المؤوّلة في عهد "النبي أرميا" الذي جاء بعد أشعياء (٧٧٤-٦٩٠ ق. م.) آخر الملوك الأنبياء في بني إسرائيل، بعد الانشقاق الذي به انفطرت الوحدة العبرية وانفصلت المملكة اليهودية في الجنوب إلى شمال (إسرائيل) و جنوب (يهوذا) بسبب ترك معتقدهم التوحيدي وأخذهم بالمعتقدات الوثنية للشعوب المحيطة بهم. و قد أوعز سبب ارتداد بني إسرائيل إلى خيانة الباغية إسرائيل زوجها الرب يهوه. من هنا تكرس معتقد أن الخطيئة (البغاء) متأصل في جسد المرأة، فقط لأن إسرائيل الأنثى مارست البغاء مع البعل (كل الرجال) وخانت زوجها.
لكن لماذا جاءت هذه الخيانة و هذا النشاز الذي تبعه طلاق في عهد النبي (القاضي أرميا).
في عهد أرميا حدث الخروج النهائي لبني إسرائيل عن ملة موسى عليه السلام وتمردهم وعدم اتباعهم للنظام وللقوانين وخروجهم على الدولة الحاكمة (الخيانة). وقد باءت كل محاولات أرميا في إرجاع النظام إلى مملكة بني إسرائيل بالفشل واستسلم لما كان يعرفه ويخشاه (الطلاق من الرب)!، أي الغزو البابلي القادم من الشمال (وليس من الشرق) على يد بخت نصر (البخيت "المحظوظ" من آل نزار) الذي قام بسبي "الباغية" شعب بني إسرائيل وردعهم عن التمادي في الجري وراء دين (بعل) غير دين يهوه. فجرهم إلى المنفى (نفي الباغية) حيث ظلوا في السبي (بعيدا عن مملكتهم) قرابة مائة عام إلى حين زوال مملكة بابل على يد الأخمينيين حكام الدولة الفارسية التي ابتعدت عن الديانة التوحيدية، وقامت باستغلال (الباغية) شعب إسرائيل بعد تحريرهم من المنفى من جديد، أن وزعتهم في أراضي كنعان (العرب من ولد إسماعيل).
هكذا تم تجريم المرأة بجسدها حين تغلغلت الأفكار المغلوطة عند اليهود أولا ثم عند سائر الثقافات المتأثرة باليهودية التي جاورتهم عندما أسيء تأويل نص خيانة إسرائيل ويهوذا الرمزيّتين وأخذها بظاهرها، عبر مصطلحها الأنثوي.
رياض الشيخ باقر
2017/1/6
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق