الثلاثاء، 31 مارس 2015

قواعد العشق الأربعون: الحلقة الثامنة


بابا زمان، سيد التكية في بغداد


لم تعرف بغداد بوصول شمس التبريزي لها، فقد جاء إلى دكة الدراويش كأي درويش متجول. في نفس اليوم جاء لزيارتنا كبير القضاة في صحبة عدد من رجاله. كان القاضي معروفا بكراهيته الشديدة للصوفية وكان يراقب جميع الصوفيين في المنطقة من أجل إشباع طموحه. كان ذو وجه عريض وبطن متهدلة وأصابع قصيرة مكتنزة في كل واحد منها خاتم ثمين، ينحدر القاضي من أسرة عريقة أنجبت عددا من العلماء وأصحاب النفوذ في المنطقة. يلبس من الثياب أفخرها وأغلاها، وكنت أحافظ على علاقة طيبة مع هذا الرجل صاحب النفوذ، لصالح تكيتنا.

- إننا نعيش في أروع مدينة في العالم" قال القاضي وهو يلقي ثمرة تين في فمه، "لكن بغداد تعج الآن باللاجئين الذين هربوا من بطش جيش المغول ونحن نوفر لهم ملاذا آمنا. إنها مركز العالم، ألا ترى ذلك يا بابا زمان؟"
- لا ريب في ان المدينة جوهرة، قلت بحرص، لكن يجب ألا ننسى أن المدن تشبه البشر، فهي تولد، وتمر بمرحلتي الطفولة والمراهقة ثم تشيخ وفي النهاية تموت ،
-  يا للتّشاؤم، هز القاضي رأسه ومد يده الى زبدية (طاسة) أخرى و أضاف: وستسود الخلافة العباسية و ستزداد ازدهارا، هذا بالطبع ما لم يعكر الخونة المهندسون بيننا صفو الوضع الحالي.

كلام يراد منه اتهام الصوفيين أنهم يثيروا المشاكل عبر ضربهم بأحكام الشريعة عرض الحائط و ازدراء رجالاتها من أمثاله، واشاعتهم تفسيرات باطنية للإسلام ، بعد لحظات فتح الباب ودخل درويشا متشحا بالسواد من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ظامرا ونحيفا، انفه مدبب وعيناه غائرتان وشعره الأسود يتهدل على أكتافه وفوق عينيه تتدلى من رقبته تعاويذ ورقي عدة، منتعلا حذاء طويل من جبد الغنم و يحمل زبدية من الخشب يجول فيها محطما كبريائه. فهو لا يعير أيّ اهتمام بما يقوله الناس عنه، كأنه شجرة بلوط شامخة بكل تواضع.

رحبت به: "أهلًا  بك في تكيتنا أيها الدرويش   جلس وأطال النظر إلى القاضي، رمق الرجلان أحدهما الآخر دون أي كلمة، عرف نفسه لي "شمس التبريزي ، درويش جوال يبحث عن الله في أرض الله الواسعة"
- سألته: هل وجدته
- هز رأسه مجيبا: نعم هو معي طوال الوقت
- قال القاضي متهكما: إذا كان الله معك طوال الوقت فلماذا تبحث عنه
- قال شمس بوجه هادىء: مع أنه لا يمكن العثور عليه بالبحث عنه ، فإن الذين يبحثون عنه هم فقط الذين يستطيعون إيجاده
- قال القاضي: يا له من تلاعب بالكلمات

ضحك الجميع لأنهم حريصون على إبداء موافقتهم على آراء القاضي

- لعلك أسأت الفهم ،،، فهناك أناس لم يسافروا قط ، ومع ذلك رأوا العالم
- قال شمس: لا يستطيع المرء أن يجد الله إذا ظل مرتديا معاطف فراء وملابس حريرية ومجوهرات غالية كالتي ترتديها اليوم

خيم صمت وذابت الأصوات والتنهيدات، حبس الجميع أنفاسهم...

- قال القاضي: أن لسانك سليط لا يليق بدرويش
- قال شمس: عندما أشعر بأنني يجب أن أقول شيئاً فسأقوله حتى لو أمسكني العالم كله من رقبتي و طلب من أن أسكت
- كما تشاء ، قل لي، هل هناك أجمل من بغداد؟
- لا يوجد جمال على وجه الأرض يدوم إلى الأبد، إذ أن المدن تنتصب فوق أعمدة روحية كالمرايا العملاقة وهي تعكس قلوب سكانها فإذا أظلمت هذه القلوب و فقدت إيمانها فإنها ستفقد بريقها وبهاءها، لقد حدث ذلك لمدن كثيرة و يحدث دائماً
- أنتم معشر الصوفيون تعقّدون الأمور شأنكم شأن الفلاسفة والشعراء، ويقع على عاتق الزعماء تلبية حاجات الناس وتطبيق الشريعة بحذافيرها
- إن الشريعة كالشمعة توفر لنا نورا لا يقدر بثمن ، لكن يجب ألا ننسى أن الشمعة تساعدنا على الانتقال من مكان إلى آخر في الظلام، وإذا نسينا إلى أين نحن ذاهبون وركزنا على الشمعة فما النفع من ذلك؟

توجد قاعدة تنطبق على هذه الحالة:
إن كل قاريء  للقرآن الكريم  يفهمه بمستوى مختلف بحسب عمق فهمه، وهناك أربعة مستويات من البصيرة:
  * المستوى الأول في المعنى الخارجي وهو المعنى الذي يقتنع به معظم الناس.
  * المستوى الباطني
  * المستوى الثالث يأتي باطن الباطن
  * المستوى الرابع هو العمق ولا يمكن الإعراب عنه بالكلمات لذلك يتعذر وصفه

أما العلماء الذين يركزون على الشريعة فهم يعرفون المعنى الخارجي، في حين يعرف الصوفيون المعنى الباطني، أما الأولياء فهم يعرفون باطن الباطن، بينما لا يعرف المستوى الرابع إلا الأنبياء والأولياء الصالحون والمقربون إلى الله
- قال القاضي: إنتبه يا صديقي، يوجد خط رفيع بين ما تقوله و بين الكفر المحض

اختتم شمس كلامه قائلا: لا تحكم على الطريقة التي يتواصل بها الناس مع الله فلكل امرىء طريقته و صلاته الخاصة، إن الله لا يأخذنا بكلماتنا، بل ينظر في أعماق قلوبنا وليست المناسك أو الطقوس هي التي تجعلنا مؤمنين، بل إن كانت قلوبنا صافية أم لا.

أخوكم
رياض الشيخ باقر

قواعد العشق الأربعون: الحلقة السابعة


شخوص الرواية في القرن الواحد و العشرين


تستدير الكاتبة إليف شافاق إلى واقع عصرنا المعاش فتطل عليه ببراعة بين الحين والآخر عبر شخصيتين أكاد أجزم أنها ظهرت من خلال إحداهما بالرغم من كون هذه الشخصية التي انتقتها رجل وليس امرأة . وبنظري كانت هذه الاطلالة ذات حبك فني جميل فعلاقتها بأحداث القرن الثالث عشر وطيدة ومترابطة. فمن خلال شخصية السيدة إيلا روبنشتاين التي تعيش في مدينة نورثامباون بولاية ماساشوستس الامريكية، والحائزة على إجازة في الأدب الانجليزي من جامعة سمث، والتي تفرغت لعائلتها بالرغم من طموحها أن تكون ناقدة مشهورة، واكتفت بكونها ناقدة وقارئةغير متفرغة للأدب، جعلها تتعرف على رواية تحكي قصة الشاعر الصوفي المعروف الرومي، الذي يعد "شكسبير" العالم الاسلامي ودرويش عاش في القرن الثالث عشر.

إنها رواية صوفية، وذلك عبر وكالة أدبية يقع مقرها في بوسطن. و لم تعلم الرابط بين الرواية وبينها و هي تعيش في عام ٢٠٠٨ وفي قارة بعيدة عن مكان وقوع أحداث تلك الرواية، وعبر تنقل جميل حكت الكاتبة هموم هذه السيدة غير المتدينة التي تأتي من أصول يهودية، وتعيش في عصرنا وقد  شارفت على الأربعين. وبالرغم من توفر كل أساليب الراحة والكماليات من بيت فاره وأثاث فاخر وسيارة ووسائل اتصالات الكترونية متعددة، إلا إنها تعيش حالة من الخواء الفكري والروحي، فعلاقتها مع أبنائها الثلاثة روتينية لا يجمعهم إلا وجبات الفطور أو الغداء، كما أن الحب الذي يجمعها مع زوجها أخذ يضمحل إن لم يكن فُقد عبر المغامرات الجنسية المتعددة التي يقيمها زوجها سواء مع سكرتيرته او مع السيدات اللاتي يتعالجن في عيادة الأسنان التي يمتلكها. كما أن ابنتها الكبرى ارتبطت بمشروع زواج من رجل غير يهودي و هي لا تزال في الجامعة، وهي تعتبر الارتباط من شخص ينتمي الى خلفية مختلفة مقامرة كبيرة، لذا قامت بمحاربة الخطوة التي أقدمت عليها ابنتها مما وتّر أجواء عائلتها أكثر مما هي متوترة.

في خضم مشاغلها و مآسيها و حالة الاكتئاب التي تصاحبها جراء بلوغها الأربعين، استلمت مهمة غريبة زادت من حيرتها، ولكن شخصيتها التي لا تعرف القنوط لم تستسلم لما حولها من وقائع جعلت من حياتها روتينية وراكدة كالبحيرة الراكدة، وخطر في بالها أن هذه الرواية ستكون بمثابة الحجر الذي تلقيه في البحيرة فتحرك مياهها الراكدة، لذا قامت وفضت المظروف الذي وصلها للتو  للبدء بقراءة المخطوطة، كان عنوان الرواية مكتوب على الغلاف بحبر أزرق "الكفر الحلو" وبجانبها ملاحظة مكتوبة بخط اليد:

"تحيات من أمستردام، تدور أحداث الرواية المرسلة طيه في القرن الثالث عشر في قونية بآسيا الصغرى، لكني أظن بصدق أن أحداثها تسري على الجميع عبر البلدان والثقافات والقرون.

أرجو أن يتاح لكم الوقت لقراءة رواية "الكفر الحلو" وهي رواية باطنية تاريخية تتحدث عن العلاقة الرائعة التي تربط بين الرومي، أفضل شاعر وأعظم زعيم روحي مبجل في التاريخ الاسلامي  وشمس التبريزي الدرويش المميز المجهول المليء بالفضائح والمفاجآت، أرجو ان يرافقكم الحب دائماً  وأن يحيط بكم على الدوام"

ومن خلال الوكالة الأدبية التي أناطت لها عمل دراسة حول هذه الرواية، تعرّفت على كاتبها فقد رأت أنه من الأفضل التواصل بين الكاتب و بين الناقد لذا قامت مندوبة الوكالة بالاتصال بها و تشجيعها على ذلك.

وعلى نقيض من هذه الشخصية يبرز كانب غير مشهور، عبر شخصية السيد عزيز زاهارا أوروبي من أصول باكستانية يعيش في هولاندا / أمستردام وهو ذو ميول روحانية وفكرية صقلت تصرفاته و نظرته للحياة، فهو كثير السفر في مهمات لها علاقة بالمآسي الإنسانية التي تعصف بالبشر على كوكب متأزم لا تكفيه آلام الأمراض ومآسيها بل أخذ يشن الحروب و يفتعلها حاصداً أرواح مئات الآلاف و تاركىً خلفه دمار ومآسي لا يعلمها إلا الله.

فمن خلال ترحاله الدائم اكتسب خبرة عريقة في معرفة الحياة، و لما كان العشق جوهر الحياة وهدفها السامي، كما يذكر الرومي فإنه يقرع أبواب الجميع، وإن العشق ليس مجرد شعور حلو مقدر له أن يأتي و يذهب بسرعة.

بدافع الفضول وقبل الاتصال بالكاتب قامت السيدة إيلا بفتح قوقل و كتبت ع ز زاهارا.

ظهرت لها مدونة شخصية بلونين بنفسجي وفيروزي، وفي أعلى الصفحة رجل يرتدي عباءة بيضاء طويلة وهو يدور ببطء حول نفسه  (رقصة الدراويش) و كان عنوان المدونة "قشرة بيض تدعى الحياة" و كتبت قصيدة تحتها تحمل نفس العنوان تقول:

ليختر أحدنا الآخر رفيقا له
و ليجلس أحدنا عند قدمي الآخر
ففي داخلنا الكثير من الانسجام
ولا تظن أننا ما نراه فحسب

كما وجدت إحدى قصائد الرومي :
إختر الحب ، الحب
فمن دون حياة الحب العذبة
تمسي الحياة عبئا ثقيلا
كما ترى

في أسفل الصفحة كان البريد الالكتروني للسيد عزيز زهارا
خطر في بالها ان ترسل له رسالة الكترونية لتتعرف عليه و لتعرّفه على مهامها التي أناطت لها الوكالة، و بذلك تم التعرف بين كاتب كثير التنقل يعيش هموم الآخرين وبين ناقد منغمس في همومه وقابع في بيته.

وصلت رسالة السيدة/ إيلا للسيد زهارا وهو في غواتيمالا في قرية تدعى موموستينانغو وهي إحدى الأماكن القليلة المتبقية التي لا يزال يستخدم سكانها تقويم شعب المايا.

أخوكم
رياض الشيخ باقر

الاثنين، 30 مارس 2015

قواعد العشق الأربعون: الحلقة السادسة


شمس التبريزي في حلة الطين


استلقيت في العتمة من جديد (الدنيا) واسترجعت متمعنا في أي إشارة إلهية ربما أكون قد رأيتها. لكنني في عجلتي وجهلي لم أدرك أيا منها. كنت في طفولتي أرى رؤى وأسمع أصواتا، وكنت أكلم الله وكان يرد علي على الدوام، كنت أصعد إلى السماء بخفة شديدة ثم أهبط إلى أعمق حفرة في الأرض تفوح منها رائحة التراب.

لقد أمضيت حياتي وأنا أطوف في أرجاء العالم.  اتبعت السراط ورأيت الجميع مثل كتاب مفتوح قرآنا متنقلا.  ابتعدت عن أبراج العلماء العاجية وفضلت قضاء وقتي مع المنبوذين والمهاجرين والمنفيين، فأنا أعرف السباحة لذلك سوف أسبح حيث أن المحيط هو موطني.

ولذلك كنت أطوف شرقا وغربا بحثا عن الله في كل مكان. أبحث عن حياة جديرة بالحياة وأبحث عن معلومات جديدة جديرة بالمعرفة.

من خلال هذه الرحلات والتجارب، رحت أجمع و أدون "المبادىء الأساسية للصوفيين الجوالين في الاسلام" كما هي قوانين الطبيعة  وهي ثابتة وموثوقة وتشكل مدونة "القواعد الأربعون لدين العشق" التي لا تتحقق إلا من خلال العشق والعشق وحده.

وتقول القاعدة الثانية من قواعد العشق:

"إن الطريق إلى الحقيقة تمر من القلب، لا من الرأس فاجعل قلبك لا عقلك دليلك الرئيس، واجه وتحدّ وتغلب في نهاية المطاف على "النفس" بقلبك، وإن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله."

لم يكن الموت هو الذي يقلقني لأنني لم أكن أعتبره نهاية، بل ما كان يقلقني هو أن أموت من دون أن أخلف تراثا، إذ يتكدس على صدري حشد من الكلمات. كنت أريد أن أنقل المعارف التي توصلت إليها، إني أبحث عن نظير يكون لي رفيق.

وبغتة هبط أمام عيني نور شديد السطوع وأصبح الهواء نقيا وحيا واندفعت ريحا عاصفة حملت رائحة الزنبق والياسمين من حدائق بعيدة "اذهب إلى بغداد" قال لي ملاكي الحارس "وما الذي ينتظرني في بغداد"، "لقد طلبت رفيقا وستعطى رفيقا، ستجد في بغداد السيد الذي سيوجهك إلى الطريق القويم".

سأعرف لماذا كانت عينا رفيقي الروحي حزينتين إلى الأبد، و كيف قُتلت في ليلة من ليالي مطلع الربيع.

أخوكم
رياض الشيخ باقر

قواعد العشق الأربعون: الحلقة الخامسة

شمس التبريزي

(المقتول يتحدث عن نفسه بين عالمي الملكوت و الناسوت)

ارتعشت أمام عيني ضوء الشموع  وغمرتني إشراقة، فقد رأيت البئر وسط فناء البيت الكبير وشعرت بلذة برودة الماء وصفاء ليلة خريفية. وبان البدر في كبد السماء، ولكن عكّر كل ذلك عويل ونعيق وحزن عينان عميقتان من وجه لطيف يتلفت يبحث عني يصرخ
"شمس، شمس، أين أنت؟"

هبت ريح وغاب القمر كأنه لا يريد أن يشهد ما سيحدث، توقف البوم عن النعيب ولم يعد الخفاش يصفق جناحيه وخمدت النار عن اصطفاقها وأطبق السكون.

انحنى الرجل على البئر و مد يده صارخا: "شمس يا أعز أعزائي هل انت هنا؟"

فتحت فمي لأجيب، و لكن لم ينبعث صوتا.

لم يرَ شيئاً، وبعد قليل رأى يدي تطوف بلا هدف فوق الماء، ثم لاح وجهي ورأى عيناي المحدقتان بالبدر تنتظران تفسيرا من السماء عن سبب قتلي.

خر الرجل ساجدا جاهشا بالبكاء ضاربا صدره بقبضتي يديه ويصرخ "لقد قتلوه، لقد قتلوا شمساً"

كنت أريد أن أعرف المزيد عن موتي، وتمنيت أن أبقى في رؤياي، ولكن أحدهم من العالم الآخر ( الناسوت ) أمسكني من ذراعي وهزني حتى جرتني قبضته إلى هذا العالم.

لقد جاءتني رؤية نقلتني من عالم إلى عالم، فنحن الدراويش الجوالون نصوم النهار كله ونصلي ونمشي تحت أشعة الشمس الحارقة ويظن الناس أننا نهلوس، والحق أن هناك خيطا رفيعا بين أن تستغرق في الله وأن تفقد عقلك. وما فائدة هذا التجوال؟ إن البؤس والتعاسة منتشرتان في كل مكان، فالناس بعد أن يكرعوا بعض من كؤوس الخمر، تسمع منهم نفس القصص، فالبشر هم أنفسهم سواء في كل مكان.

ولكن من يبحث عن شيء مختلف غير من يبحث عن الله. و كثير منا يبحث عنه في المكان الخطأ و بطريقة خاطئة، فعندما يذكر المرء الله بسوء، فإنه يسيء التكلم عن نفسه.

ألا يقول الله "ونحن اقرب إليه من حبل الوريد"؟ فالله لا يقبع بعيدا في السماوات العلى، بل يقبع في داخل كل منا. لذلك فهو لا يتخلى عنا  فكيف له أن يتخلى عن نفسه؟

وقد يتسائل البعض: "إن كان الله هنا فهو لا يحرك ساكنا ونحن نعاني من أسوأ النهايات فماذا يعني ذلك"؟ هل العنف من شيم البشر؟ وإن لم يكن، فقد أصبح كذلك. عندما ينسانا الله و يتركنا وحيدين، يترتب على الناس العاديين أن يصبحوا أشداء و يحققوا العدالة بأيديهم. فعندما يتخلى الرب عن حملانه فلن تنتظر هذه الحملان بوداعة وخنوع حتى تذبح بل ستتحول إلى ذئاب.

انها القاعدة الأولى من قواعد العشق الأربعين:

"إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاسة للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة، فهذا يعني أن قدرا كبيرا من الخوف والملامة يتدفق من نفوسنا. أما إذا رأينا الله مفعما بالمحبة والرحمة، فإننا نكون كذلك."

وهذا يختلف عن الله الذي صورناه في نسج خيالنا.

فالحملان إذا تحولت إلى ذئاب لن تحقق العدالة، وإذا ذبلت النبتة الطيبة في أعماقنا بدأنا نفقد طاقتنا الروحية وتغلب علينا جسدنا ومع ذلك يمكن لكل منا أن يصبح حملا، لأننا لا نزال نحتفظ بالحمل في داخلنا.

أخوكم
رياض الشيخ باقر

قواعد العشق الأربعون: الحلقة الرابعة


شخوص الرواية تتحدث عن نفسها، أسلوب شيق اتبعته الكاتبة في سرد روايتها التي استخدمت وقائع وأحداث حقيقية وقعت وذلك بأسلوب شيق جذاب.
ولنستمع إلى أول شخوص الرواية من الماضي وهو يتحدث عن نفسه وإلى ما في قلبه، أملاك هو أم شيطان؟ إنه:

القاتل:


عويل يتردد صداه في رأسي تلك الصيحة الأخيرة التي انطلقت منه (المقتول) قبل أن يُصفّى دمه وتجحظ عيناه وتغلق حنجرته في لهاث غير منته، رجل طعن بالسكين، عيناه تتبعاني حيثما وليت، براقتان، مهيبتان مثل نجمتين داكنتين معلقتين على نحو ينذر بالشؤم في أعالي السماء.

إني أحمل معي آثار جميع من قتلت، أعلقهم حول رقبتي مثل قلائد خفية، أحس بوجودهم فوق لحمي بإحكام وبثقل.

لم يكن ما آلت إليه نفسي صدفة فقد كنت عام ١٢٤٨م أعمل لدى صاحبة مبغى في قونية. خنثى معروفة بشدة غضبها، وكنت أساعدها في مراقبة العاهرات وبث الرعب في من لا يحسن التعامل من الزبائن، و ذات يوم كنت اطارد عاهرة هربت من المبغى بحثا عن الله، و كنت أنوي ان اشوه وجهها بحيث لا يعود رجل يرغب بها.

إلى أن جاء من يطلب خدماتي لمهمة أشد قسوة، أن أقتل درويشا بعد أن عرفوا أني من فرقة الحشاشين الذين تفرق أعضائها بعد موت زعيمها الحسن الصباح ، وقد غادرت "ألموت" و لجأت إلى قونية هربا من القصاص ، حيث قدموا لي مقابل قتل الدرويش مبلغا كبيرا من المال يكفي أن أسدد مهر عروس و لن يساورني القلق بعدها على أن أدبر معيشتي.

قبلت عرضهم ، فلماذا أرفض ذلك وفينا كلنا توجد رغبة دفينة أن يقتل أحدهم يوما ما، فمعظم الأشخاص لدى كل واحد منهم شخص يريد ان يتخلص منه، حتى الله أدرك الحاجة إلى شخص مثلي في خطته المقدسة عندما عين عزرائيل، ملك الموت لإنهاء حياة الناس، وهكذا يخاف الناس الملك و يلعنونه و يمقتونه، بينما تظل يدي الله نظيفتين ويبقى اسمه نقيا، وفي ذلك جور على هذا الملاك.

لقد خُفّف عني عندما قيل لي أن الدرويش الذي يريدون التخلص منه "رجل زنديق لا يمت إلى الاسلام بصلة، وأنه عنيد جامح، يكتنفه الرجس والكفر، إنه درويش مارق".

كيف لي أن أعرف أن قتل هذا الدرويش أكبر خطأ ارتكبته في حياتي، فبعدما طعنته و ألقيت بجسده في بئر، رحت انتظر سماع سقوطه في الماء، وهو ما لم اسمعه أبداً. لم تصدر سقطة جثمانه أي صوت، ويبدو أنه بدلا من أن يسقط في البئر، صعد إلى السماء. وبالرغم من مرور فترة طويلة لم يغمض لي فيها جفن، وظلت تراودني الكوابيس والأحلام المزعجة كلما نظرت إلى الماء، ويتملكني رعب ورعشة في  جسمي لا يزول إلى أن أتقيأ.

و حتى بعد مماتي ما زالت القلائد معلقة حول عنقي بل ازداد ثقلها على جسمي وشعرت بنار لهيبها يحرقني، و تلك العينين الجاحظتين سهامها نار تتلضى تخترق قلبي.

اخوكم
رياض الشيخ باقر

قواعد العشق الأربعون: الحلقة الثالثة


كان القرن الثالث عشر الميلادي مليئاً بالصراعات الدينية والنزاعات السياسية والقتال الوحشي على انتزاع السلطة. فترة مضطربة عاشها العالم الاسلامي والمسيحي الشرقي وكانت هضبة الأناضول مسرحا رئيساً لها. فقد احتل الصليبيون القسطنطينية وعاثوا فيها فساداً وهم في طريقهم لاحتلال القدس، فقسمت الامبراطورية البيزنطية.

وفي الشرق انتشرت جيوش المغول بقيادة جنكيز خان، وفي الوسط كانت القبائل التركية تتحارب في ما بينها، في حين يئس البيزنطيون من استرجاع مجد إمبراطوريتهم.

كانت فترة فوضى لم يسبق لها مثيل. مسيحيون يقاتلون مسيحيين، و مسلمون يقاتلون مسلمين، و مسيحيون يقاتلون مسلمين ، قتال وخوف ودمار ومجاعة ومشردون في كل مكان. فغلبت شريعة الغاب على كل الشرائع، وفي خضم ذلك كله عاش عالم إسلامي جليل عرف باسم جلال الدين الرومي الملقب بـ"مولانا". وفي العام ١٢٤٤ الميلادي التقى مولانا الرومي بالدرويش المتجول شمس التبريزي ذي التصرفات الغريبة والآراء الهرطقية. وقد غير لقاؤهما هذا حياة كل منهما، فقد اتحد محيطان اثنان، كل يجود بكنوزه للآخر. فقد تحول مولانا الرومي من رجل دين عادي تقليدي إلى شاعر عرفاني يدعو إلى الحب والحكمة، فبدلا من أن يدعو إلى الجهاد ضد الكفار دعى إلى الجهاد ضد النفس، إلى "الجهاد الداخلي" لقهر النفس المتسلطة المليئة بالتعصب والنزاعات الدينية.

لم تلقى آراء مولانا الرومي القبول عند الناس وأوعزوا ذلك كله بحبه الروحي لشمس التبريزي فأصبحت محل ذم و شتم و دارت حول علاقتهما الإشاعات  وانتهت علاقتهما التي دامت ثلاث سنوات بمأساة  قاسية دفع التبريزي حياته ثمنا لها.

لكنّ حكايتهما لم تنتهي فبعد مضي زهاء ثمانمائة سنة لا تزال روح شمس وروح الرومي تنبضان بالحياة وما أشد احتياجنا لروحيهما في هذا العصر العصيب الذي شابه عصرهما لنستفيد من حكمتهما في إشاعة روحانية عالمية أمام جميع بني البشر من مختلف مشاربهم و خلفياتهم الدينية و الثقافية.

أخوكم
رياض الشيخ باقر

قواعد العشق الأربعون: الحلقة الثانية


إذا رميت حجرا في مياه متدفقة فلن ترى أثرا لذلك فالموجة الحادثة جراء ذلك سوف تكبحها مياه النهر المتدفقة، أما إذا رميت حجرا في بركة راكدة سوف يدوم تأثيرها اكثر إذ ستتشكل دائرة بعدها دوائر تتسع وموجات تظهر على سطح الماء حتى تبلغ الدوائر شاطىء البركة و لن تعود البركة ذاتها مرة أخرى.

و حياتنا مثل البركة الراكدة التي تتكون من العادات والاحتياجات والأمور الرتيبة المتوقعة وغير المتعبة وبدون أي شغف أو رغبة ، فعاداتنا تخلو من العاطفة و من العشق فلا يسود فيها التفاهم ولا المودة ولا الرحمة، فالحب في حياتنا شيء ثانوي والأمور الإلهية في حياتنا طقسية وليست روحانية، فالعشق ليس مجرد شعور حلو مقدرا له أن يأتي و يذهب بسرعة.

لقد طغت الأمور المادية ( البيت والأملاك العقارية والحسابات البنكية والسيارات الفارهة ) على كل شيء حتى عدنا غرباء عن أقرب الناس لنا، بل أصبحنا غرباء على أنفسنا ولم نعد نعرف من نحن.

شغلتنا حياتنا بأجسادنا و ملذاتها وما تحتاجه، ولم نعر أرواحنا أي اهتمام ولم نعد نهتم بمن حولنا وبمشاعره، وضاقت دائرة مشاعرنا فأخرجنا كل مختلف عنا في الدين والعادات والعرق والجنس منها. العشق هو جوهر الحياة وهدفها السامي فإنه يقرع أبواب الجميع كما يقول ابن الرومي.

يتعين علينا أن نطلع و نقرأ كي نؤدي أعمالنا بشكل أفضل، ولكن في معظم الأحيان يتعين علينا ان نقرأ كتبا لا علاقة لها بحياتنا العملية وعلينا عدم العجلة في الحكم على الأمور فقد خلق الله الكون في ستة أيام. وعلينا عدم الحكم على الناس بسبب دينهم أو لون بشرتهم أو عملهم. إن مخالطة أناس ينتمون إلى خلفيات مختلفة عنا ليست مغامرة كبيرة، بل إن ربط الناس بثقافات وعادات مختلفة ومن أوطان متعددة يعتبر تجلي قوي للإنسانية الكامنة فينا والتي قتلناها أو حاولنا قتلها عبر مسلمات وعادات لا صحة لها.

هذه رواية من خلالها سوف نعرج في رحلة ما بين عالم الملكوت وعالم الناسوت عبر قصص تدور أحداثها في القرن الثالث عشر في مدينة قونية بآسيا الصغرى، وهي أحداث تسري على جميع البلدان والثقافات والقرون، فلا يختلف ذاك القرن عن القرن الواحد والعشرين وسيدوّن التاريخ أن هذين القرنين كانا عصرا صراعات دينية إلى حد لم يسبق له مثيل، و عصر ساد فيه سوء التفاهم الثقافي والشعور العام بعدم الأمان والخوف من الآخر.

هي رواية باطنية تاريخية تتحدث عن العلاقة الرائعة التي ربطت الشاعر العرفاني المتصوف جلال الدين الرومي الذي شاع صيته وشهرته في التاريخ الاسلامي ، و بين شمس التبريزي الدرويش المميز المجهول المليء بالفضائح و المفاجآت.

أخوكم
رياض الشيخ باقر

سلسلة حلقات قواعد العشق الأربعون: الحلقة الأولى

كتاب : قواعد العشق الأربعون - رواية


المؤلف :
إليف شافاق
كاتبة و رؤائية تركية ولدت في ستراسبورج بفرنسا و حازت على عدة جوائز أدبية و تعد روايتها قواعد العشق الأربعون من اكثر الروايات قراءة في العالم فقد بيع منها أكثر من (٦٠٠،٠٠٠ ) ستمائة الف نسخة  و ترجمت الى اكثر من ثلاثين لغة و منحت بموجبها وسام فارس التميز الفخري للفنون و الآداب.

تمتاز الكاتبة بقدرتها على الكتابة باللغة الإنجليزية بجانب لغتها الأم التركية وامتازات ثقافتها بمزيج من التقاليد الغربية والشرقية وغوصها في مواضيع مهمة، فهي تحكي عن النساء والأقليات والمهاجرات والثقافات الفرعية والشباب والشخصيات العالمية الانسانية وإلماما بقضايا التاريخ والفلسفة والتصوف والثقافة الشفوية والسياسات الثقافية.

روايتها هذه تتناول العشق الإلهي والحب وواقع الأحداث بين الشرق والغرب في الماضي والحاضر عبر ما هو دنيوي وما هو روحاني كل ذلك من خلال قصة الشاعرالعرفاني المتصوف جلال الدين الرومي المشهور في التاريخ الإسلامي وشمس التبريزي الدرويش المجهول الواقعة أحداثها في القرن الثالث عشر الميلادي / السادس الهجري.

أما المترجم السيد/ خالد الجبيلي الحائز على إجازة في اللغة الانجليزية من جامعة حلب بسوريا ومن معهد اللغوين في لندن والمترجم في الأمم المتحدة في نيويورك فقد أجاد ترجمة الرواية إجادة يشكر عليها حتى يخيل إليك أنها كتبت باللغة العربية وليست مترجمة.

تستفتح الكاتبة روايتها بقول :

" عندما كنت طفلا ،
رأيت الله ،
رأيت ملائكته
رأيت أسرار العالمين العلوي و السفلي، ظننت أن جميع الرجال رأوا ما رأيته، لكنني سرعان ما أدركت انهم لم يروا ،،،،،"

( شمس التبريزي )

اتبعت الكاتبة أسلوبا فريدا في عرض أحداث روايتها ، تبرز الكاتبة لشخوص روايتها صفحات منفصلة حيث تتحدث كل شخصية عن نفسها وعن الأحداث التي عاشتها وانطباعها عن تلك الأحداث كي تكشف مقدار وجود الله في قلب كل شخصية منفردة ومستقلة عن الاخرى كي نرى الله الواحد الأحد في قلوب الكثرة المتعددة الصور، التي قد لا تعكس صورتها الظاهرية حقيقة وجود الله في قلبها.

وقد أجادت الكاتبة في تعدد الصور كما أجادت سبر أغوار القلوب كي تكتشف وجود الله فيها.

و لنا مسيرة سنتناول فيها لقواعد العشق الأربعون عبر حلقات عدة لاستكشاف ما كشفته الكاتبة من أسرار ومعارف عبر نظرة ثاقبة لصور شخوص روايتها و من خلال فتح القلوب التي اتخذها الله عرشا له ، و ذلك عبر قراءة مختصرة لما تناولته الرواية من  الحكمة و المعرفة التي تناولتها (٥١٠) صفحة هي عدد صفحات هذه الرواية الشيقة.

أخوكم
رياض الشيخ باقر

السبت، 21 مارس 2015

في الذكرى الثانية لرحيل العلامة الدكتور الشيخ الفضلي رضوان الله عليه

أبو تراب

في تراثنا أن أبا تراب هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وفي واقع حياتنا المعاصرة فإن الجدير بهذا اللقب هو فضيلة الشيخ عبدالهادي الفضلي رضوان الله عليه.

تعرفت عليه من خلال زياراته القليلة الخاطفة إلى والدي المرحوم الشيخ باقر. سمعت منه عنه، ما جلّل الرجل عندي وأكبر من مقامه. ولكن لحداثة سني وقلّة فراستي ذاك الوقت فقد أسأت تقدير ما قاله الوالد بحقه، لما للرجل من تواضع وحبّ وتكريم لوالدي جعله ساكتا. فقد جاء بلباسه البسيط وكان معظم وقته مستمعا قليل الكلام كثير الابتسامة و لم يفصح عن أي عبقرية أو علم وصفه به والدي. و بعد خروجه أخذ والدي يكلّمني عن الشيخ وعقلي مذهول بما أسمع، فلم أخبر إطلاقا أنّ والدي يغالي في أحد، لذا وقعت في حيرة سببها ما أسمع وما أرى. وقتها تكوّن الاعجاب بالشيخ فقد كانت أمنيتي أن أرى الرجال القدوة من بلدي فجاء رجل يضيف لأمنياتي اسما بعد اسم أبي، فللشيخ الفضلي باع في التجديد والتأليف والأدب والثقافة والعمل الحركي والسياسي، ومنذ ذلك الوقت وأنا أسأل نفسي لماذا خبأ الفضلي ذلك كله تحت عباءته و لم يخبر به أحد ما عدا من رافقه في رحلاته الفكرية والحركية.

دارت الأيام ورجع الشيخ من رحلة إلقاء دروسه بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة إلى الدمام وسكنت أنا الدمام، والتقيت بالشيخ في فترات متقطعة وهو كما هو، ذاك الرجل الترابي القليل الكلام إلى أن حانت ساعة رحيل أبي إلى الرفيق الأعلى، وتاهت أسئلتي الوجودية  والعقدية وأسئلة الهوية من جديد، فطرقت بابه وقبلت رأسه بعد عناء.

لقد كانت قبلة ابن لأبيه. ابن فقد والده ووجد من يتبناه ويعطيه رفق الأبوة وصحبتها. وكان الشيخ الفضلي نعم الأب ونعم الرفيق الرقيق الحاني، لا يغضب ولا يزمجر، بل ولا يرفع صوته، كأنه هو الذي في حضرتك ولست أنت من في حضرته، يبتسم مترفقا لك في خلافه وإن استدعى أن يؤكد على خلافه فيكتفي بهز رأسه ويكرّر الابتسامة إلى حين سكوتك فيبدأ في الكلام. تقاطعه ولا يقاطعك تستنكر عليه قوله ولا يستنكر عليك، بل يحلم عليك وكأن لو ودّ أن يأخذك بين ذراعيه ويقبلك، لا لشيء إلا لأنك تتحير في ذات الله، وما أجملها من حيرة عنده  فهي العبادة والسياحة. أما فيما يخص مقاصد القرآن فهي المقدمة عنده في فهمه للدين و في كرامة الإنسان وعلو مقامه عند خالقه لذا صاغ فكره المتجدد على ضوئها فأنارت صفحات مؤلفاته سنين مظلمة وجدّدت كلماته أوراقا عتيقة اصفرت بما حملته من جهالات و ما تراكم عليها من غبار.

أبو تراب الفضلي،

مجلسه البسيط ذو الأثاث المتهالك، عظيم وجليل بقدر جلالة من جلس عليه. كرسي غُطّي بقماش أبيض ليستر ما بلي منه من قدمه ووضعت عليه وسادة كي تليّن مقعده الخشن. كان هذا الكرسي مقعده المفضل، وتحيط به مقاعد للزوار عساها لا تغضبهم لما فيها من بساطة، وأظن أنها لا تفعل لأن من يحضر لا ينتبه ولا ينشغل باله فيها فهو مأخوذ بعظمة الشيخ وفكره وسماحته وبساطته التي أضفت على بساطة المجلس جمالاً ووقاراً وفكراً وعلماً.

نعم هذا هو الشيخ الفضلي وهذا هو مجلسه.

تجلس بين يديه وهو الذي يحني رأسه وعيناه تمخر الأرض تواضعا لمن شرّفه بالمجيء عنده، كما هي الشجرة المثقلة بالثمر انحنت أغصانها ودنت إلى الأرض  كي تعطيك من ثمرها.

نأتيه طلبا للعلم فيعطينا درسا في الأخلاق أولا.

لا بطريقة النصح بل بنموذج تحلّى هو به، ثم في التحنّن و الترفّق في طلب العلم، فلا يدّعي الإدراك و اليقين كلّه، متأسّيا بإمامه الصادق عليه السلام "عدم الإدراك إدراك"، فلا يغضب إن خالفته رأيه وهو المتخصّص فيه وأنت طالبه، بل يشاطرك رأيك و يبحث في أسبابه و حججه إلى حين يكتمل الزاد فترى نفسك تحمل زاده وتترك ما في جعبتك. أما إذا كان زادك من رزق الله الذي أنعم به عليك، فالشيخ سبّاق أن يجعله نورا ساطعا باسطا كفيه بما تحمل من لآلىء وفضه كي تتزوّد منها وتقوّم ما اعوجّ أو يجعل لك نهجا و سراطا تستقيم به فتصل به إلى غايتك.

في نظرية الحكم في الإسلام له السبق، وفي المنهج الأكاديمي له باع، وفي التجديد له حركة، وفي الفكر والطرح التنظيمي له تنظير، و في الجهاد له أخوة.

لم يشتاق لشهرة ولم يسعَ لها بل هي اشتاقت وسعت له فمن تواضع لله رفعه، ولم يطلب مجدا فهو المجد فبيته عامر بذكر الله، ولم يطلب زادا فهو التقي الورع. كرّمناه بعد رحيله، وهو لا يطمح لذلك بل كان يقول هلموا إلي وأريحوني من علم أريد بذله قربة إلى الله. وكره ولائم الموائد وعشق مجالس الدرس ومقاعدها. كم هو ذاك الفضلي كريماً، وكم كنا نحن البخلاء. كم كان رقيقا وكم كنا ننطوي على فظاظة وغلاظة حرمتنا الاستفادة من وجوده حيّا بيننا.

رياض الشيخ باقر
٢٠١٥/٣/٢١

الثلاثاء، 17 مارس 2015

العلامة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 محمد بن احمد بن عبدالله الطائي الحاتمي  الأندلسي المكي الدمشقي ( ٥٦٠هـ /١١٦٥م ٦٣٨هـ / ١٢٤٠م )

يقول ابن العربي عن العلوم التي اكتسبها: 

" خصصت بعلم ما لم يخص مثله     سواي من الرحمن والعرش والكرسي

أشهدت من علم الغيوب عجائبا        تصان عن التذكار في عالم الحس

علوم لنا في عالم الكون قد سرت       من المغرب الى طلع الشمس

فيــــا عجــــبا اروح واغتدي         غريبا وحيدا في الوجود بلا جنس "
( ديوان ابن العربي )


لقد حاول كثير ممن جاؤوا من الصحراء  سبر أغوار علوم الشيخ الأكبر ابن العربي، و ابن العربي الذي استوطن الوادي المقدس طوى بعد ان خلع نعليه، أنس نار ربه فاستضاء بنورها، وهو محيط لا قعر له. فليس كل من يجيد السباحة يجيد الغوص، و لا كل الغواصين يتقنون جمع اللؤلؤ والمرجان من المحيط ، فبعضهم يخرج بعظام نخرة وأخال الكثير ممن حاولوا الغوص في محيطه جاؤوا له دون عدته، فهم على سبخة خلجان وابن العربي قد أبحر من مرفأ ليخوض محيط بلا شطآن ، يغوص في بحر بلا قعر ، فامست سفينته محملة من كل زوجين اثنين وحوته داجي الظلمات ترك الصخرة فعام في البحر، فلا يترك الغوص حتى يبلغ مجمع البحرين، و قد ترك البحر رخوا ورائه ، فحذار لمن يركب رخو البحر.

فجمع اللؤلؤ فن وجَلَد وخبرة، وليس كل اللؤلؤ سواء ، فلآلي ابن العربي ناصعة البياض و نورها مشع تذهب ببصر من يحاول فتح صدفتها ان لم يكن لديك بصيرة.

و لقد حَذُر من ركب رخو البحر وراء ابن العربي و ما ارعى أو ما اهتدى من ركب البحر، فقد اسلموا قلوبهم لعقولهم و ابن العربي سلم عقله لنور قلبه.

هم وهو كإبليس وآدم ، حينما أمر الله إبليس بالسجود لآدم ، فامتنع و قال "خلقتني من نار وخلقته من طين" و ما علم أن الطين اجتمعت فيه كل الأسرار ، وما علموا ، فلا يغرنك ما أصابك من نور، فقد كان إبليس ملك من الملائكة الكروبيون ، فأصابه الغرور  فنهره ربه و قال له  "اخرج منها إنك رجيم إلى يوم يبعثون".

فآه لابن آدم يبصر ولا يبصر ، ويسمع ولا يسمع ، حواسه حجب، و نوره ظلمات، و فراشه التراب، وتابوته الأرض، وقميصه الزاهي من صلصال من حمأ مسنون ، و شبابه فانٍ.

إن أصاب من العلم مقدار كفه خُيّل إليه أنه اغترف البحر، وأنا و أنتم  يا سادتي لم تمتلئ أكفنا  بعذب الماء ، فكل ما اغترفناه هو ملح أجاج لا يصلح للشرب فلن يزيدنا إلا عطشا. نبحث عن الماء، والماء المعين في كتاب ربنا القرآن الحكيم، إن شئت أن تغرف من نهرا من الكوثر و ينبوعا للحياة.

كانت لأبن العربي عند العبد الصالح الذي آتاه الله من لدنه علما، مولاه علي ابن ابي طالب عليه السلام حظوة ورفقة، فقد صب من ريق علمه إلى قلبه فوعاها، و له مع أستاذه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام جلسات ، فجلس ابن العربي القرفصاء بين يديه مطأطئا له رأسه حانيا له هامته ، فرفعه الله حين أخذا بيده إلى أول مقامات العروج و صعد سلم سماواته (السماوات) فضاقت أنفاسه و شهق زفيره وزمجرت أوداجه ، فقد ركب مركبا صعبا لا يركبه إلا الأولياء و الأنبياء.

فتوسل مولاه جعفر فأجاره إلى ركوب السلالم فصعد من السلم درجة فزهقت روحه.

ثم استجار مولاه علي فردت إليه الروح وصعد من السلم درجه فزهقت روحه.

فعلم أن لا مجير له إلا الكامل المكمل حبيب الله خير البشر محمد بن عبدالله بن خير الأوصياء عبدالمطلب صلوات ربنا عليه و على المصطفين من أجداده فلم يجار لأنه لم يطرق الباب ولم يقرأ "و لسوف يعطيك ربك فترضى" و لم يقرأ "حم السجدة" و لم يقرأ  "كهيعص".

فرجع القهقرى و دعا ربه أن يشمله في عنايته ويخصه من الصلوات ومن السلام الذي خص به من قال فيه "وإنك لعلى خلق عظيم"، فعلم أن رضا الرب من رضا من كان رضاه قد احتوى الحب والعشق.

فدخل الحرم و طاف حول البيت العتيق بين الركن والمقام و توسد حجر اسماعيل و تعلق بأستار البيت تحت المرزام حتى أخذته الرحمة فغفت جفونه ورأى في المنام ملائكة الرحمن تعرج به سماء بعدها سماء وبعدها سماء إلى سماء سابعة ربنا.

فلم يجد إلا محمد صلى الله عليه وآله و سلم.

فنوره نور من نجم هوى فاستظل به.

مع تحياتي
اخوكم
رياض الشيخ باقر
٢٠١٥/٣/١٧