السبت، 21 مارس 2015

في الذكرى الثانية لرحيل العلامة الدكتور الشيخ الفضلي رضوان الله عليه

أبو تراب

في تراثنا أن أبا تراب هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وفي واقع حياتنا المعاصرة فإن الجدير بهذا اللقب هو فضيلة الشيخ عبدالهادي الفضلي رضوان الله عليه.

تعرفت عليه من خلال زياراته القليلة الخاطفة إلى والدي المرحوم الشيخ باقر. سمعت منه عنه، ما جلّل الرجل عندي وأكبر من مقامه. ولكن لحداثة سني وقلّة فراستي ذاك الوقت فقد أسأت تقدير ما قاله الوالد بحقه، لما للرجل من تواضع وحبّ وتكريم لوالدي جعله ساكتا. فقد جاء بلباسه البسيط وكان معظم وقته مستمعا قليل الكلام كثير الابتسامة و لم يفصح عن أي عبقرية أو علم وصفه به والدي. و بعد خروجه أخذ والدي يكلّمني عن الشيخ وعقلي مذهول بما أسمع، فلم أخبر إطلاقا أنّ والدي يغالي في أحد، لذا وقعت في حيرة سببها ما أسمع وما أرى. وقتها تكوّن الاعجاب بالشيخ فقد كانت أمنيتي أن أرى الرجال القدوة من بلدي فجاء رجل يضيف لأمنياتي اسما بعد اسم أبي، فللشيخ الفضلي باع في التجديد والتأليف والأدب والثقافة والعمل الحركي والسياسي، ومنذ ذلك الوقت وأنا أسأل نفسي لماذا خبأ الفضلي ذلك كله تحت عباءته و لم يخبر به أحد ما عدا من رافقه في رحلاته الفكرية والحركية.

دارت الأيام ورجع الشيخ من رحلة إلقاء دروسه بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة إلى الدمام وسكنت أنا الدمام، والتقيت بالشيخ في فترات متقطعة وهو كما هو، ذاك الرجل الترابي القليل الكلام إلى أن حانت ساعة رحيل أبي إلى الرفيق الأعلى، وتاهت أسئلتي الوجودية  والعقدية وأسئلة الهوية من جديد، فطرقت بابه وقبلت رأسه بعد عناء.

لقد كانت قبلة ابن لأبيه. ابن فقد والده ووجد من يتبناه ويعطيه رفق الأبوة وصحبتها. وكان الشيخ الفضلي نعم الأب ونعم الرفيق الرقيق الحاني، لا يغضب ولا يزمجر، بل ولا يرفع صوته، كأنه هو الذي في حضرتك ولست أنت من في حضرته، يبتسم مترفقا لك في خلافه وإن استدعى أن يؤكد على خلافه فيكتفي بهز رأسه ويكرّر الابتسامة إلى حين سكوتك فيبدأ في الكلام. تقاطعه ولا يقاطعك تستنكر عليه قوله ولا يستنكر عليك، بل يحلم عليك وكأن لو ودّ أن يأخذك بين ذراعيه ويقبلك، لا لشيء إلا لأنك تتحير في ذات الله، وما أجملها من حيرة عنده  فهي العبادة والسياحة. أما فيما يخص مقاصد القرآن فهي المقدمة عنده في فهمه للدين و في كرامة الإنسان وعلو مقامه عند خالقه لذا صاغ فكره المتجدد على ضوئها فأنارت صفحات مؤلفاته سنين مظلمة وجدّدت كلماته أوراقا عتيقة اصفرت بما حملته من جهالات و ما تراكم عليها من غبار.

أبو تراب الفضلي،

مجلسه البسيط ذو الأثاث المتهالك، عظيم وجليل بقدر جلالة من جلس عليه. كرسي غُطّي بقماش أبيض ليستر ما بلي منه من قدمه ووضعت عليه وسادة كي تليّن مقعده الخشن. كان هذا الكرسي مقعده المفضل، وتحيط به مقاعد للزوار عساها لا تغضبهم لما فيها من بساطة، وأظن أنها لا تفعل لأن من يحضر لا ينتبه ولا ينشغل باله فيها فهو مأخوذ بعظمة الشيخ وفكره وسماحته وبساطته التي أضفت على بساطة المجلس جمالاً ووقاراً وفكراً وعلماً.

نعم هذا هو الشيخ الفضلي وهذا هو مجلسه.

تجلس بين يديه وهو الذي يحني رأسه وعيناه تمخر الأرض تواضعا لمن شرّفه بالمجيء عنده، كما هي الشجرة المثقلة بالثمر انحنت أغصانها ودنت إلى الأرض  كي تعطيك من ثمرها.

نأتيه طلبا للعلم فيعطينا درسا في الأخلاق أولا.

لا بطريقة النصح بل بنموذج تحلّى هو به، ثم في التحنّن و الترفّق في طلب العلم، فلا يدّعي الإدراك و اليقين كلّه، متأسّيا بإمامه الصادق عليه السلام "عدم الإدراك إدراك"، فلا يغضب إن خالفته رأيه وهو المتخصّص فيه وأنت طالبه، بل يشاطرك رأيك و يبحث في أسبابه و حججه إلى حين يكتمل الزاد فترى نفسك تحمل زاده وتترك ما في جعبتك. أما إذا كان زادك من رزق الله الذي أنعم به عليك، فالشيخ سبّاق أن يجعله نورا ساطعا باسطا كفيه بما تحمل من لآلىء وفضه كي تتزوّد منها وتقوّم ما اعوجّ أو يجعل لك نهجا و سراطا تستقيم به فتصل به إلى غايتك.

في نظرية الحكم في الإسلام له السبق، وفي المنهج الأكاديمي له باع، وفي التجديد له حركة، وفي الفكر والطرح التنظيمي له تنظير، و في الجهاد له أخوة.

لم يشتاق لشهرة ولم يسعَ لها بل هي اشتاقت وسعت له فمن تواضع لله رفعه، ولم يطلب مجدا فهو المجد فبيته عامر بذكر الله، ولم يطلب زادا فهو التقي الورع. كرّمناه بعد رحيله، وهو لا يطمح لذلك بل كان يقول هلموا إلي وأريحوني من علم أريد بذله قربة إلى الله. وكره ولائم الموائد وعشق مجالس الدرس ومقاعدها. كم هو ذاك الفضلي كريماً، وكم كنا نحن البخلاء. كم كان رقيقا وكم كنا ننطوي على فظاظة وغلاظة حرمتنا الاستفادة من وجوده حيّا بيننا.

رياض الشيخ باقر
٢٠١٥/٣/٢١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق