من القيصرية إلى بغداد ١٢٤٣ م
الرسالة :أخي العزيز بابا زمان،
كان السلطان الراحل علاء الدين كيقباذ يحلم ببناء مدينة يعيش فيها الشعراء والحرفيون والفلاسفة ويعملون بسلام. حلم قال عنه الكثيرون أنه مستحيل تحقيقه بسبب الفوضى والحروب بالعالم التي شنها المغول والصليبون. مسيحيون يقتلون مسلمين ومسيحيون يقتلون مسيحيين، ومسلمون يقتلون مسيحيين، ومسلمون يقتلون مسلمين.
أديان وطوائف وقبائل، حتى الأخوة يتحاربون. لكن قيباذ اختار قونية لتحقيق حلمه.
و يعيش فيها حالياً عالم يدعى مولانا جلال الدين، يعرف بالرومي، كان لي الشرف الدراسة معه، أولا كمعلم له ثم بعد وفاة أبيه أصبحت تلميذا لتلميذي. فقد كان يتصف بصفة لا تتوفر إلا لقلة قليلة من العلماء وهي القدرة على الغوص تحت قشرة الدين واستخراج الجوهرة العالمية والأبدية من جوهره.
فعندما التقى الرومي الشاب بالشيخ الصوفي الجليل فريد الدين العطار فقال عنه: "إن هذا الفتى سيفتح بابا في قلب العشق و يضرم النار في قلوب جميع العشاق الصوفيين".
وعندما رأى ابن عربي، الفيلسوف البارز والكاتب الصوفي المعروف، الرومي الشاب وهو يسير وراء أبيه قال
"سبحان الله ، محيط يمشي وراء بحيرة".
الرومي في عمر الرابعة والعشرين أصبح زعيما روحيا، و بعد مضي ثلاثة عشر سنة اعتبره سكان قونية قدوة لهم. ففي كل جمعة يتوجه الناس من جميع أرجاء المنطقة لسماع خطبته في جامع المدينة الكبير، في براعة يتناول الفقه و الفلسفة واللاهوت وعلم الفلك والتاريخ والكيمياء والجبر. وله من المريدين عشرة آلاف يرون أنه سيحدث تغييرا إيجابيا مهما في تاريخ الإسلام إن لم يكن في تاريخ العالم.
لقد أسر لي الرومي بنفسه، أنه لا يشعر بالرضا عن نفسه، إذ ينقص حياته شيئاً ما. إنه فراغ لا يملأه أحد من مريديه، مع أنه لا يزال غراً ولم يحترق، كانت كأسه متفرعة حتى الحافة. إلا أنه يجب أن يفتح باب روحه لكي تتدفق مياه الحب إلى الداخل والخارج.
إنه بحاجة إلى صديق و رفيق درب، فذكرته بالحديث الشريف: "المؤمن مرآة المؤمن"
إنه يبحث عن حلم يراوده باستمرار.
"يبحث عن شخص يعيش في مدينة كبيرة تعج بالناس، كلمات عربية، غروب شمس مثيرة وأشجار توت ودودة قز تنتظر بأناة في شرانق سرية لحظة وصولها، ثم رأى نفسه في فناء بيته جالسا بالقرب من البئر يحمل فانوسا و يبكي"
تذكرت أنك مولع بالحرير ودودة القز، لذا فالمكان الذي رآه الرومي ما هو إلا تكية الدراويش التي أنشأتها أنت، فهل يعيش رفيق الرومي تحت سقفك، كي نساعد أنا وأنت على التقاء نهرين ليصبا في محيط العشق الإلهي وليكونا مجرى ماء واحد.
إن الرومي يحظى بحب الكثيرين واحترامهم وإن هذا التدفق معا قد يولد السخط والمعارضة ويسبب الخصومة ، وقد يعرض كل ذلك رفيق الرومي إلى خطر لا يمكن لأحد معرفته، قد لا يتمكن مَن ترسله إلى قونية من العودة منها.
أنتظر ردك،
السيد سعيد برهان الدين
أثار رسول قادم من القيصرية إلى بغداد لغطا بين الدراويش الذين يعرفون أن الزوار في هذا الشتاء القارص اكثر ندرة من العنب الصيفي الحلو. رسول يحمل رسالة مستعجلة، والكل متلهف لمعرفة فحوى الرسالة بما فيهم سيد التكية الذي تلقفها وهو متدثر بعباءة أسراره و بطبعه البارد العنيد وحذره الشديد.
أما شمس فدفعه الفضول لإحساس انتابه بأن الرسالة تخصه شخصيا، فأمضى عدة أمسيات في خلوة مع نفسه مرددا أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين لعلها ترشده، وفي كل مرة يبرز له اسم -الجبار- الذي لا يمكن أن يجري في سلطانه شيء إلا بإرادته.
لم تدم حيرة دراويش التكية طويلا، فبعد عدة أيام سمع الجرس النحاسي في حلقة المطبخ يقرع عدّة مرّات داعيا الجميع إلى اجتماع عاجل، فحضر الجميع وجلسوا في الغرفة الرئيسة في الخانقاه في شكل دائرة عريضة جلس السيد في وسطها زاما شفتيه و كانت عيناه غائرتين وقال: "إن الاجتماع حول الرسالة التي تلقاها، وأنه يعيش عالم متبحر في مدينة يجيد استخدام الكلمات، لكنه لا يستخدم استعارات كثيرة لأنه ليس بشاعرٍ ولا عاشق"
هنا تذكر شمس إحدى قواعده التي تقول :
"الوحدة و الخلوة شيئان مختلفان، فعندما تكون وحيدا فمن السهل أن تخدع نفسك ويخيل إليك أنك تسير على الطريق القويم، أما الخلوة فهي أفضل لنا ، لأنها تعني أن تكون وحدك من دون أن تشعر بأنك وحيد. لكن في نهاية الأمر من الأفضل لك أن تبحث عن شخص، شخص يكون بمثابة مرآة لك، تذكر أنك لا تستطيع أن ترى نفسك حقاً إلا في قلب شخص آخر، وبوجود الله في داخلك."
- تابع السيد القول: هل يرغب أحد منكم التطوع للقيام بهذه الرحلة الروحية؟
- تساءل أحد الدراويش: من هو هذا العالم يا سيدنا؟
- رد عليه السيد: لا أستطيع أن اكشف اسمه إلا للشخص الذي يريد أن يذهب اليه
تسعة دراويش رفعوا أيديهم و انظم إليهم شمس فأصبح العدد عشرة
فأشار بابا زمان بيده و قال: هناك شيء آخر يجب أن تعرفوه قبل أن تتخذوا قراركم، إن الرحلة محفوفة بمشاق ومخاطر كبيرة ولا شيء مضمون يضمن عودة الشخص الذي سيذهب
أنزل الجميع أيديهم ما عدا شمس، فنظر بابا زمان إليه واضعا عينه في عينه، وعندما التقتا فهم شمس أن السيد يعرف منذ البداية أن شمس هو المتطوع الوحيد.
- قال السيد: شمس التبريزي، إني احترم إصرارك لكنك عضو مهم في طريقتنا، بالإضافة إلى أنك ضيفنا
- قال شمس: لا أرى كيف يمكن أن يكون ذلك مشكلة.
خلال ثلاثة شهور لم يكلم شمس أحدا، إلا أنه ظل متفائلا، وهنا تذكر قاعدة أخرى:
"مهما حدث في حياتك ومهما بدت الأشياء مزعجة ، فلا تدخل ربوع اليأس، وحتى لو ظلت جميع الأبواب موصدة، فإن الله سيفتح دربا جديدا لك، احمد ربك! فمن السهل عليك أن تحمد الله عندما يكون كل شيء على ما يرام فالصوفي لا يحمد الله على ما منحه إياه فحسب، بل بحمده أيضاً على كل ما حرمه منه."
في اجتماع آخر دعي إليه كل من سكن التكية من الدراويش قال السيد: "أرى أن شمس هو الدرويش الوحيد الذي تطوع ، لكنني سأنتظر الخريف حتى أتوصل إلى قرار"
فعرف شمس أن الانتظار أخف عليه من الاحتجاج الذي أبداه وامتعاضه من التأخير متسلحا بالصبر والتصميم الذي استمده من إحدى قواعده التي تقول :
"لا يعني الصبر أن تتحمل المصاعب سلباً، بل يعني أن تكون بعيد النظر بحيث تثق بالنتيجة النهائية التي ستتمخض عن أي عملية، ماذا يعني الصبر؟ إنه يعني أن تنظر إلى الشوكة و ترى الوردة، أن تنظر إلى الليل وترى الفجر، أما نفاد الصبر فيعني أن تكون قصير النظر ولا تتمكن من رؤية النتيجة. إن عشاق الله لا ينفد صبرهم مطلقا، لأنهم يعرفون أنه لكي يصبح الهلال بدرا، فهو يحتاج إلى وقت."
في الجلسة الاخيرة التي رأيت فيها سيد التكية مجتمعا معنا، لم يبعد نظره عن شمس ولم يتجاهله عندما رآه يرفع يده للمرة الثالثة وقال:
حسنا يا شمس، لا ريب في أنك الشخص الذي سينطلق في هذه الرحلة، إن شاء الله ستنطلق غداً صباحا
ابتسم بابا زمان لشمس كما يبتسم الأب لابنه الوحيد قبل أن يرسله إلى ساحة المعركة، وأخرج من عباءته رسالة مختومة
عندما فض شمس الختم قرأ اسم المدينة واسم العالم، سيذهب إلى قونية ويلتقي بعالم اسمه الرومي
الرومي :
حرف الراء القوي المشرق
حرف الواو المخملي
حرف الميم الجسور الواثق
حرف الياء الغامض الذي يجب حله
أخوكم
رياض الشيخ باقر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق