مدينة قونية ١٢٤٤ م
- نستطيع أن نبحث عن الله وأن نجده في عظمة وروعة الكون الذي خلقه على صورته أينما استدرنا، لكن البشر نادرا ما يفعلون...
قال شمس ذلك وهو يتذكر الشحاذ والبغي والسكران.
- أناس عاديون أمراضهم مشتركة محورها الانفصام عن الواحد الأحد، هؤلاء لا يراهم العلماء الذين يجلسون في أبراجهم العاجية
وأخذ شمس يتسائل، هل الرومي يختلف عنهم.
تذكر حكاية مفادها، أن درويشا جوالا وصل لقرية أهلها لا يحبون الغرباء، فصاحوا به:
- اخرج !! فلا أحد هنا يعرفك
- نعم لكني أعرف نفسي ، صدقوني ، فمن يعرف نفسه ، يعرف الواحد الأحد
وتذكر قاعدة اخرى تقول :
"ما الحياة إلا دين مؤقت، وما هذا العالم إلا تقليد هزيل للحقيقة، والأطفال فقط هم الذين يخلطون بين اللعبة والشيء الحقيقي ومع ذلك فإما أن يفتتن البشر باللعبة، أو يكسرونها بإزدراء ويرمونها جانبا، في هذه الحياة تجنب التطرف بجميع أنواعه، لأنه سيحطم اتزانك الداخلي"
و قال في نفسه
- قلة قليلة تهتم بالنباتات ذات الأشواك، بالرغم أنه يمكن صنع أدوية عظيمة منها. ألا ينطبق ذلك على حديقة العشق؟ كيف يكون العشق جديرا باسمه ما لم يختر المرء منه إلا الأشياء الجميلة ويترك الأشياء الصعبة؟ فالتحدي الحقيقي هو أن يختار المرء الأشياء الجيدة والسيئة معا. لا لأنه يجب أن يتقبل الأشياء لحلوها ومرها، بل لأنه يجب أن يتجاوز هذه الأوصاف و يتقبل الحب برمته.
اجتاز ابن الرمي الطريق على حصانه الأبيض الذي علق على رقبته أجراسا كي يسمع الناس رنينها و لا يسدوا الطريق كي يتمكن من السير بسرعة أكبر. بين بيوت متداعية وباعة اختلط ندائهم مع بكاء الأطفال وأنات المرضى والفقراء والشحاذين، يطلبون منه أن يباركهم أو يدعو لهم. بل كان البعض يتجاوز طلب النقود إلى طلب الشفاء أو رقية من عمل شرير صنع له كأنهم لم يروا أن لا مقدور لنبي أو ولي أو حكيم الإتيان بمعجزة من هذا الإتيان بهذا.
عندما اقترب الرومي من خان السكر، ظهر له ولياً جوالا يشق صفوف الناس متوجها اليه. وقف في منتصف الطريق رافعا ذراعيه عاليا، و كأنه لم يكن يريد أن يوقف موكب الرومي، بل يوقف تدفق الزمن كذلك. و قرب من الرومي ومسح على رأس ورقبة الحصان الجافل فهدأت روعته، ثم نظر إلى الرومي و قال:
- جئت هنا لأسئلك سؤالا لو سمحت
- تفضل
- عليك أولا ان تترجل عن حصانك كي نكون على سوية واحدة
فترجل ابن الرومي عن حصانه ، حينها دار الدرويش ظهره وسار مبتعدا
- يا صاح انتظر! أريد ان اسمع سؤالك
- حسنا قل لي أرجوك، من هو الأعظم برأيك، النبي محمد أم الصوفي أبو يزيد البسطامي
- ما هذا السؤال؟ كيف يمكنك أن تقارن بين نبينا العظيم عليه الصلاة والسلام، خاتم الأنبياء والمرسلين و بين صوفي سيء السمعة؟
- أفلم يقل النبي: يا رب أغفر لي عجزي عن معرفتك حق المعرفة، في حين البسطامي قال : طوبى لي فأنا أحمل الله داخل عبائتي؟ فإذا كان هناك رجل يشعر بأنه صغير بالنسبة لله بينما يدعي رجل آخر بأنه يحمل الله في داخله، فأيهما اعظم؟
لم يكن السؤال كما يبدو غريبا، بل إن تحته لغزا مثيرا لا يُحل إلا كشفا للحجب
- أرى ما تحاول أن تقوله، سأقارن بين القولين، مع قول البسطامي يبدو أعلى لكن سأخبرك لماذا أن العكس هو الصحيح
- كلي آذان صاغية
- إن حب الله محيط لا نهاية له، كل منا ينهل من الماء بقدره، وهذا يعتمد على حجم الكوب الذي نحمله. كان وعاء البسطامي صغيرا، فروى الماء القليل ضمأه فسعد به ولم يتمكن من التمييز بين الله و بين وحدة النفس. أما نبينا فقد اختاره الله لأنه يحمل كوبا أكبر بكثير لكي يملأه، لذلك سأله الله في القرآن: ألم نشرح لك صدرك، فكان كوبه ضخما. وكان الماء المتدفق عليه عطشا على عطش، فقد روي و لم يرتوي.
نحنى شمس واضعا يده على صدره لابن الرومي، فما كان من ابن الرومي إلا أن انحى له، وقفا هكذا والناس في دهشة فهم لم يروا ابن الرومي ينحني لأحد من قبل، ما بالك لدرويش، مما جعل شمس يفضل أن يغادر، ثم التفت وقال:
- وماذا عن كوبك أنت ايها الخطيب العظيم؟ ما حجمه؟
سارع ابن الرومي إلى الدرويش محدقا في عينيه، ثم أدرك أن الدرويش الذي أمامه ما هو إلا ذاك الرجل الذي كان يأتيه في أحلامه وعرف أنه وجد رفيقه. فلم ينحني الرومي من قبل إلا للملك أو للصدر الأعظم فمن هو هذ الدرويش الذي وجد نفسه منحنيا له؟
كانا يكتفيان بتناول قطعة من الخبز في الصباح وكوب حليب الماعز في المساء. لم يغادرا المكتبة طوال أسبوعين، مما خلق ذعر عند أولاد الرومي. فقد أزعجهما أن يقوم أبيهم بالانحناء إلى درويش في طريق عام وأمام الناس. والآن هذا الدرويش يسكن في بيتهم ويأخذ أباهم بعيدا عنهم، ولم يخرجا من المكتبة إلا بعد مرور أربعين يوما.
أخوكم
رياض الشيخ باقر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق