الخميس، 23 أبريل 2015

قواعد العشق الأربعون: الحلقة الثالثة عشرة


مدينة قونية ١٢٤٤ م

صور من التجلي لا ترى :

الثور و المزارع

قبل أن يدخل شمس مدينة قونية ذهب إلى أوليائها الصالحين من مسلمين أو مسيحيين أو يهود، لأنه يؤمن بأن الأولياء الصالحين يترفعون عن هذه الفروق الإسمية التافهة، فهم ينتمون إلى سائر البشرية، طلب من الريح أن تحمل كلماته إلى الأولياء والقديسين في طول البلاد وعرضها، لكنهم لم يمنحوه بركاتهم بالرغم من أنهم سمعوه، أخيراً قالت له الريح ، إما الحب الخالص وإما الكره المحض نقيضين في هذه المدينة، هذا ما ستجد لا غير، فتذكر قاعدة من قواعده تقول:

"لا تحاول أن تقاوم التغييرات التي تعترض سبيلك، بل دع الحياة تعيش فيك، ولا تقلق إذا قلبت حياتك رأسا على عقب، فكيف يمكنك أن تعرف أن الجانب الذي اعتدت عليه أفضل من الجانب الذي سيأتي."

ترك حصانه يرعى الأعشاب المتناثرة ، فعرض عليه فلاحا يجر عربته بثور عجوز أن يوصله فقال له:
- شكرًا ، أظن أنني أستطيع أن أكمل رحلتي مشيا على القدمين أسرع من ثورك
- لا تبخس ثوري قدره
- كيف لي أنا ذلك العنصر البسيط في دائرة خلق الله الواسعة، أن أبخس من قدر عنصر آخر في هذه الدائرة، سواء أكان حيوانا أم إنسانا ؟ إني أعتذر منك ومن ثورك، أرجوك سامحني. قال شمس ذلك وهو منحني أمام الفلاح.
- لم يفعل ذلك أحد قط
- أتعني الاعتذار من ثورك؟
- وهذا أيضاً ، لكن احدا لم يعتذر لي قط، فأنا الذي أعتذر دائماً عندما يخطىء الناس.

فقال شمس بهدوء:
- يقول القرآن الكريم (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وهي قاعدة من القواعد. إن الله منهمك في إكمال صنعك من الخارج ومن الداخل. إنه منهمك بك تماماً، فكل إنسان هو عمل متواصل يتحرك ببطء ولكن بثبات نحو الكمال. فكل واحد منا هو عبارة عن عمل فني غير متكامل يسعى جاهدا للاكتمال. إن الله يتعامل مع كل واحد منا على حدة لأن البشرية لوحة جميلة رسمها خطاط ماهر تتساوى فيها جميع النقاط من حيث الأهمية لإكمال الصورة.
- هل أتيت لتسمع الخطبة أيضاً
- قل لي ما الذي يميز خطب الرومي
- لقد أتيت من قرية حلّت عليها المجاعة ثم جاء المغول وحرقوا ونهبوا وفعلوا بالمدن ما هو أسوأ. استولوا على أرض روم وسيواس و قيصرية، ذبحوا جميع الذكور وسبوا النساء. خسر الجميع بهجتهم.
- ما علاقة ذلك بالرومي
- الجميع يقول إنك إذا استمعت لخطب الرومي فإن حزنك سيزول
- هل الحزن هو المشكلة، أم النفاق؟ فالحقيقة هي من تجعلهم يشعرون بالحزن


المتسول حسن

صدّق أو لا تصدّق، إنهم يطلقون على هذا المطهر الأرضي ( حاجز بين الجنة والنار) بالعذاب المقدس، أنا الأبرص العالق في اليمبوس (دهليز في جهنم)

قال حسن المتسول الأبرص البائس الذي لا يريد أحد مخالطته أو التحدث معه، حتى النساء والاطفال يرجمونه، فقد تطور البرص إلى جذام والمجذومون يعيشون خارج أسوار المدينة، بل عليهم أن يعلقوا جرسا لتحذير الآخرين، فلا رزق لهم إلا التسول والصلاة: "وبسبب الصلاة فقط يعطف الله علينا ويجعل الناس يحترموننا ويحتقروننا في نفس الوقت، بل هم يطلبون بركات صلاتنا لهم، مقابل المال أصلي، أدمدم بكلمات لا أفهم معناها بخشوع، فكل ما عندي هو الادعاء والتصنع، وكنت أتسائل دوما هل الله يسمعني ؟؟ ، لأني لا أملك سببا يجعلني أؤمن أنه يسمعني."

يعتبر يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع للتسول. أما رمضان فكل أيامه مربحة، لأن الناس يتدافعون لدفع الزكاة كي يغفر الله لهم ذنوبهم
والجلوس قبالة المسجد هو الأفضل للمتسولين حيث يضعون طياسهم، والمجذومون لا حاجة لهم لخلق القصص والبكاء أو لجلب الأطفال أو الرضع، يكفي أن يكشف عن وجهه أو أصابعه التي أكلها الجذام.

"كنت أحلم بقطعة من النقود الذهبية تقع في طاستي محفور عليها رمز الشمس والأسد والهلال، فجميع العملات المعدنية الصادرة عن ولاة حلب والحكام الفاطميين في القاهرة والخليفة في بغداد كذلك نقود الفلورين الإيطالي صالحة للتداول، وتتساقط القطع النقدية في طاستي حالما يروني، فهم لا يرون من أنا ، بل يرون ما أفقده."

جاء الرومي على حصانه و حوله حشد من المعجبين والمريدين، فأخذ حسن  ما بالطاسة من نقود ولف رأسه ودخل المسجد.

"إخوتي"، قال الرومي مبتدأ خطبته...
"إن رحابة الكون تجعلنا نشعر بضآلتنا، بل بعدم أهميتنا، لقد كرم بني آدم بمعارف عظيمة لا تقوى على حملها حتى الجبال والسموات (إنا عرضنا الامانة على السماوات)، لا شيء يقربنا من الله إلا الألم و المعاناة."

"أعجبني ما قاله الرومي بأن المتعة والحزن يعتمدان على بعضهما، ولكن الاستياء خنق حنجرتي، فما الذي يعرفه الرومي عن المعاناة والألم ، فهو وريث عائلة ثرية مشهورة، هنا تساءلت عن السبب الذي يجعل الله غير عادل، كيف يمنحني الفقر والتعاسة، ويمنح الرومي الثروة والجاه والحكم (هل هو القبض و البسط)، إن يدك تفتح وتغلق باستمرار وإن لم تفعل فستصاب بالشلل، هل يد الله كذلك؟

مع كل سؤال جديد كان استيائي يزداد ، لم استطع المكوث في المسجد أطول و شققت طريقي من بين المصلين إلى الخارج."


الباغية وردة الصحراء

لماذا يقول الناس أنهم يكرهون رؤية البغايا وفي نفس الوقت يصعبون طريق التوبة عليهم؟ هل على الباغية أن تبقى في المكان الذي سقطت فيه وتسافلت إلى الدرك الأسفل؟

تقول الباغية وردة الصحراء: "كل ما أعرفه هو أن بعض الناس يتغذون على تعاستنا... رغبت أن أستمع لخطبة الرومي، ولكن منذ متى تؤم  العاهرات المساجد؟ تذرعت عند صاحبة المبغى بأنني أريد شراء بعض الحاجيات، فصدقتني فخرجت تجاه الجامع، في الطريق اختبأت وراء أجمة تقع بعد التقاطع وأخذت البس لباس الرجال." 

تذكرت قول أمي: أخشى أن تكوني قد ولدت تحت نجم سيء،  فقد انتشرت وقتها قوات الصليبيبين وسمعنا قصص مرعبة عن مجازر وحشية وقعت في القسطنطينية، ثم جاءت هجمات السلاجقة وبعدهم المغول الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة.

كان والديّ خبازين مسيحيين مؤمنين، كنت أرى عيون الفقراء الذين يستجدون بقايا وفتات الخبز، وكنت أكلم الله وأشكره كأني أكلم صديقا، لأن الله كان صديقي آنذاك.

بعدها ماتت أمي في مخاض عسير فقد كان في رحمها ثلاثة أجنة ، وبالرغم من محاولات القابلة لإنقاذ حياة أخوتي وحياة أمي، إلا أنها وبعد مرور أربعة أيام توفيت، وانقلبت حياة أبي وتدهور العمل بالمخبز وعانى أخي الذي تبقى من المخاض العسير سوء معاملة أبي الذي حمّله مسئولية وفاة أمي وسوء أحوالنا.

 كنا نتأمل أن أوضاعنا ستتحسن بعد أن تزوج أبي، إلا أن الوضع ازداد سوء فقد زاد العذاب علي أخي بعذاب زوجة أبي له. مرّت السنون والوضع يزداد سوء ويزداد قساوة على أخي، وذات يوم وُجد أبي وزوجته مقتولين بسم الجرذان. شاع خبر أن القاتل هو أخي ذو الست سنوات، الذي لم أره فقد هرب من المدينة.

بعدها غادرت وأنا في الثالثة عشر من عمري إلى القسطنطينية لأعيش مع عمتي العانس، و في الطريق سلبت عصابة من اللصوص العربة التي ركبتها ولما كنت لا أملك شيئاً قال زعيمهم: "هل انت عذراء إيتها الجميلة... هيا بنا... خذوا الخيول والفتاة."

 لم يهم أحد بمساعدتي بالرغم من مقاومتي لهم، بعدها أخذني اللصوص إلى غابة أقاموا فيها قرية ، عندها عرفت مغزى سؤاله عن عذريتي، فقد كان زعيم القرية مصاب بحمى عصبية لن تزول الا اذا عاشر بكراً لينتقل إليها مرضه فيشفى منه ، هكذا كانت البداية التي لا شأن لي في بدايتها.


الشحاذ حسن 

خطبة منمقة تلفظها الرومي عن الألم و المعاناة وهل يعرف عنهما شيء "همهم الشحاذ حسن هذه الهمهمات في نفسه وإذا به يرى درويشا يرتدي ثوبا أسودا باليا ويحمل عصا كبيرة وكان أمردا.  "لم يتجاهلني كما يفعل الجميع، بل وضع يده اليمنى على صدره وحياني! رددت له التحية، جاء نحوي و جثا على ركبتيه:

- السلام عليك ايها الشحاذ
- وعليك السلام أيها الدرويش
- ما اسمك
- وما حاجة رجل مثلي إلى اسم
لكل شخص اسم ، لله أسماء لا يحصى عددها ولا نعرف منها إلا تسعة و تسعين اسما ، فإذا كان لله اسماء فكيف يمكن لإنسان وهو صورة الله أن يجول من دون اسم؟


أخوكم
رياض الشيخ باقر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق