مدينة قونية ١٢٤٤ م
- من أين أتيت ،، و إلى أين أنت ذاهب... قال الحارس الليلي لسليمان السكران- هذه أسئلة عميقة يا بني ، فلو كنت أعرف الأجوبة لحللت لغز سبب وجودنا في هذا العالم
- أتسخر مني، لعل ذلك يعلمك كيف تتصرف بأدب، ألا تعلم أن شرب الخمر من الكبائر... قال الحارس ذلك وهو يهوي بشدة بسوطة على صدر سليمان
- لو كانت الجنة مخصصة لأمثالك، لفضلت أن أحترق في نار جهنم...
وراح سليمان يغني مع كل ضربة سوط:
قبليني يا حبيبتي ، قشري قلبي حتى الصميم
شفتاك حلوتان بحلاوة نبيذ الكرز فصبي لي المزيد
بعدها فقد الزمن وطأته على سليمان، و كذلك كل شيء آخر، و توارى القمر وراء الغيوم..
- لم يتركني نوره فحسب بل، تركني وأنا لا أعرف من أنا، رحت أتخبط في بحر النسيان بين الحياة والموت، لم أعبأ إلى أين سينتهي بي الأمر
- يكفي يا بيبرس توقف
- إنك شخص مريض ، لا تلم إلا نفسك على ما فعلته بك...
قال ذلك بيبرس واختفى مع الحارس الآخر بعيدا في الظلمة. ظل سليمان يئن من جراحه، رأسه يترنح وتبول في سرواله، عندما كان يدعو الله، سمع خطوات شخص يقترب منه، لم يعد يخاف لأن لا شيء يخسره، جثا رجل بجانبه وساعده على النهوض
- إنك تنزف دما ،،. ليس من الخارج فقط بل من الداخل... قال شمس، وأخرج قارورة فضية وقال:
- إدهن جروحك بهذا المرهم، إن الجرح في داخلك أعمق وهو ما يجب ان تقلق منه، إنه سيذكرك بأنك تحمل الله في داخلك
- لقد ضربني الحارس بالسوط قال أني أستحق ذلك
- لا يحق لأحد أن يفعل ذلك فكل واحد يبحث في ذاته عن الله، هناك قاعدة تقول:
"لقد خلقنا جميعا على صورته ومع ذلك فإننا جميعا مخلوقات مختلفة ومميزة، لا يوجد شخصان متشابهان، ولا يخفق قلبان لهما الإيقاع ذاته، ولو أراد الله أن نكون متشابهين لخلقنا متشابهين. لذلك، فإن عدم احترام الإختلافات وفرض الأفكار على الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله."
- لكن أليس لديكم أنتم الصوفيون شكوك حوله
- نعم إن الشك شيء جيد فهو يعني أنك حي ترزق ودائم البحث. كما أن المرء لا يصبح مؤمنا بين ليلة وضحاها، إذ يخيل إلى المرء أنه مؤمن ثم يحدث شيء في حياته فيصبح ملحداً، ثم يعود ويؤمن ثانية وهكذا دواليك حتى يزداد قربا من الحقيقة
- ماذا عن ورود الخمر في أشعار الصوفيين فهل النبيذ الذي تمدحونه حقيقي أم مجازي؟
- هناك قاعدة تفسر ذلك تقول:
"عندما يدخل عاشق حقيقي لله إلى حانة فإنها تصبح غرفة صلاته، لكن عندما يدخل شارب الخمر إلى نفس الغرفة، فإنها تصبح خمارته، ففي كل شيء نفعله قلوبنا هي المهمة لا مظاهرنا الخارجية، فالصوفيون لا يحكمون على الآخرين من مظهرهم أو من هم، وعندما يحدق صوفي في شخص ما، فإنه يغمض عينيه و يفتح عينا ثالثة، العين التي ترى العالم الداخلي."
- في تلك اللحظة عرفت أن الله موجود وأنه يحبني... قال سليمان
كان للحارس بيبرس عماً معلما في مدرسة قونية متعصبا مثله، أمور كثيرة عنده يجب محاربتها، فقد انتشر الفساد والفسق والفجور، وهذا ما يزعجه و يقلقه، لأن الناس عنده لم يعودوا يتمسكون بأهداب الدين ولا يعتصمون بحبل الله، وبسبب ذلك أرسل الله المغول عقابا لهم، و لو لم يأتِ بالمغول لوقع زلزال أو حلت مجاعة أو فيضان وفي يوم قريب سيزول جميع البشر من الوجود و نقتفي آثار قوم سدوم و عمورة.
كان دائماً ما يردد القلق المعشعش في صدره و يقول:
- كيف يجرؤ هؤلاء الصوفيون على تسمية أنفسهم مسلمين وهم يرددون أشياء لا تمت إلى الاسلام بصلة؟ يدعون أن محمد ص قال عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، لمجاهدة النفس، بل يذهب هؤلاء بأن الشريعة مجرد مرحلة في الطريق، ويعتبرون القرآن الكريم مليء بالرموز الغامضة والتلميحات المتعددة الطبقات، يبحثون عن الإشارات والمراجع الخفية في النص، بل يدعون أن البشر هم القرآن الناطق نفسه، إنهم أسوأ خلق الله. أما الفلاسفة فهم ليسوا بأفضل حال من الصوفيين، فهم يفكرون وكأن عقولهم المحدودة تستطيع أن تدرك غموض الكون، أفلا يدركون أننا معشر البشر لا ينتظر منا أن نعرف أكثر مما ينبغي لنا ان نعرفه؟ فلا تكمن مهمتنا في تفسير تعاليم الله، بل في إطاعتها والعمل بها.
أخوكم
رياض الشيخ باقر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق