الجمعة، 24 أبريل 2015

قواعد العشق الأربعون: الحلقة الخامسة عشرة


مدينة قونية ١٢٤٤ م


كانت وردة الصحراء  تتسائل وهي في القرية التي أسكنها فيها الخاطفون، لماذا لا تهرب العاهرات من القرية وهي مفتوحة على طرق الغابة؟ عرفت الجواب عندما جاءت إلى القسطنطينية هربا، عندما قدمت جسدها لأحد سائقي عربة من عربات النبلاء، فالمدينة أسوأ بكثير من القرية لذا لم تبحث عن عمتها العانس وبذلك أصبحت وحيدة، و تحطمت معنوياتها و تلف جسدها في عالم مليء بالحقد والاغتصاب والوحشية والمرض، مما تسبب لها أن تجهض عدة مرات متعاقبة وتضرر جسدها فتوقفت دورتها الشهرية ولم يعد بإمكانها الحمل.

رأيت أشياء لا أستطيع وصفها بكلمات، بعدها غادرت المدينة، سافرت مع جنود ومهرجين غجر،  لبيت كل احتياجهم ثم وجدني رجل يدعى (رأس الواوي) جلبني إلى هذا المبغى في قونية، و بسبب عقمي سمتني صاحبة المبغى (صحراء) ولكي يكون للأسم رونقا أضافت كلمة وردة، وأنا احب الورد. إن  الإيمان مثل البستان الذي فيه ورود مخفية تطوف حولها وتشم عبق عطرها، لكني لا أستطيع دخول البستان، أريد أن يعود الله صديقا لي كما كان ذات مرة، فأشتاق له وأدور حول الحديقة بحثا عنه.

هكذا وجدت نفسي انصت إلى خطبة الرومي عندما أخذت مكاني كرجل في المسجد، فماذا لو اكتشفوا أن بينهم امرأة، ناهيك عن أنها عاهرة.

قال الرومي: لقد خلق الله المعاناة حتى تظهر السعادة من خلال نقيضها، فالأشياء تظهر من خلال أضدادها، وبما أنه لا يوجد نقيض لله، فإنه يظل مخفيا.

أحسست بسحابة من السكينة تهبط علي وبراحة وبهجة مثل رؤية أمي وهي تخبز الخبز.

قبل أن يدخل شمس إلى المسجد أخرج المرآة الفضية وقال للشحاذ حسن: احتفظ بها لقد قدمها لي رجل طيب في بغداد لكنك تحتاجها اكثر مما أحتاجها أنا، إنها ستذكرك بأنك تحمل الله في داخلك.

في تلك اللحظة تعالت الأصوات وزاد الهرج والمرج ، فقد اكتشفوا وجود امرأة، عاهرة معروفة داخل المسجد متنكرة في زي رجل.

 اجلدوا هذه المرأة المخادعة بالسوط ! اجلدوا العاهرة بالسوط.

لم أعد أدهش لرؤية كيف يتغير بعض الناس عندما ينضمون إلى الغوغاء، إذ سرعان ما يتحول الرجال العاديون إلى أشخاص عدوانيين حتى أنهم يصبحون قتلة عندما يجتمعون، فقد شاع القتل وعرضت الجثث في الشوارع.

- "يا لها من امرأة مسكينة" دمدمت لشمس الذي لم أعد أراه فقد اندفع  بقوة نحو الغوغاء
- "توقفوا، توقفوا أيها الناس، توقفوا ، يجب أن تخجلوا من أنفسكم" قال شمس ذلك وهو يضرب بعصاه الارض... "ثلاثون رجل يهاجمون إمرأة واحدة ، هل هذا عدل؟"
- إنها لا تستحق العدل
- قال بيبرس: وجدناها متنكرة في ثياب رجل و اندست داخل المسجد لتخدع المؤمنين
- هل تقصد أنكم تريدون معاقبة شخص لأنه ارتاد المسجد؟ هل هذه جريمة
- إنها عاهرة، لا مكان لها في مسجد طاهر
- إنها عاهرة! زانية! لتقتل العاهرة
- هل أنتم تحتقرون هذه المرأة أم تشتهونها
- أخذ شمس يد المرأة و شدها اليه ، فاختبأت وراءه
- إنك ترتكب خطأ فادحا، إنك غريب في هذه البلدة ولا تعرف عاداتنا فلا تحشر نفسك
- من أي نوع من الدراويش أنت؟ ألا يوجد لديك شيء أفضل من الدفاع عن عاهرة؟
- كيف لاحظتم بوجودها في المسجد في حين كان من الواجب أن تهتموا بالخطبة؟ إنكم تهتمون بمن حولكم أكثر من اهتمامكم بالله. هيا ارجعوا إلى سماع الخطبة. هيا ، أيها الناس، هيا عودوا لسماع الخطبة...

كرّر شمس مقولته وهو يلوح بعصاه. احتار الناس فيما يفعلوه في حين تردد بعضهم في العودة للمسجد، فاستغلت الباغية هذا الارتباك واستجمعت قواها وولت هاربة، حاول البعض ملاحقتها فاعترضه شمس وألقى عصاه تحت أقدام من حاول مطاردتها فسقطوا على الارض، اختفت الفتاة وولت الأدبار، ابتعد شمس بعد ان اطمأن على الفتاة.

قبل حدوث تلك الجلبة كان سليمان السكران يسند ظهره في حانة من خمارات المدينة

- ما الذي يجري هنا؟
- قال خريستوس صاحب الحانة" لا تقلق أيها السكران العجوز، لا يوجد مغول يطاردونك، بل الرومي يمر
- فتح سليمان النافذة و طل برأسه متفرجا
- قال رجل في موكب الرومي عندما رآى سليمان: مسلم في حانة عار عليك، ألا تعرف أن الخمر رجس من عمل الشيطان؟

مرت قطعة حجر فوق رأس سليمان لولا أنه أنحنى لتهشمت جمجمته

- قال خريستوس:  ألا تعرف أن هناك أناسا لا يريدون رؤية مسلم في حانة، وها أنت تكشف عن نفسك ورائحة الخمر تفوح منك
- وما الضير في ذلك، ألست إنسانا، لهذا السبب أكره الدين، إذ يعتقد المتدينون أن الله واقف إلى جانبهم ويظنون أنهم يتفوقون على الآخرين
- لا أفهم لماذا حرم الله الخمر في هذه الدنيا ووعد بها في الجنة، إذا كانت سيئة لماذا تقدم في الجنة؟
- أسئلة ، أسئلة ، إنك تنضح بالأسئلة دائماً فهل عليك أن تسأل عن كل شيء ؟
- طبعا ، فلماذا مٌنحنا العقل
- قال تاجر فارسي جالس على طاولة قريبة يستمع لما دار:  نريد أن نسمع قصيدة للخيام
- قفز سليمان على الطاولة وأنشد :
      هل تظن أن الله خلق الكرمة       ثم حرمها وجعل شرابها إثما
      فاشكر الذي سخرها لنا هكذا      والذي لابد أنه يحب سماع صلصلة الأقداح
- الشراب يجعل من البعض مرحين ويجعل من آخرين أشرارا، فلا يجب أن نلوم الشراب بل يجب أن نلوم الشارب نفسه

كان بيبرس الحارس هو الزبون المزعج الدائم للمبغى وهو من عرفها في المسجد بعدما انحل الوشاح وانكشف وجهها وانفلت شعرها. لم يتسنى للفتاة الخروج من المسجد فقد أحاط بها جمع من الرجال، هناك رجال يضاجعون مموسات و يحتقروهن و يهينوهن على الدوام، و كان بيبرس منهم فكثير ما كان يضرب الفتاة التي يضاحعها ضربا مبرحا و يبصق في فمها و يلقي عليها النكت البذيئة، وها هو اليوم يجلس في الصف الأمامي بعد ان أرخى لحيته مثل الرجال الورعين، أمسك بيبرس بالفتاة و قال:

- ماذا تفعل عاهر هنا؟ ألا تخجلين؟
- أرجوك ، أرجوك دعني أذهب

تركت الفتاة الرجال يدفعونها نحو الباب إلى خارج المسجد بعدما انهار جسدها وهم يمطرونها بوابل من الإهانات، لم يساعدها أحد، ولم  تكد تطأ قدماها الشارع إلا وازداد الرجال عنفا و عدوانية.

- لم ينتابني شعور بالحزن كما الآن بالرغم مما عانيته في حياتي السابقة، فبعد سنوات من التردد اقتربت اليوم خطوة باتجاه الله، وكيف أجاب على تقربي منه! بركلي و طردي من بيته! ما كان علي ان اذهب هناك ، إنهم محقون لأنه ليس لعاهر مكان في مسجد أو كنيسه... قالت لسمسم الرجل البدين ذو عقل الطفل، الذي يحرس البغايا حال خروجهم من المبغى
- لا تقولي هذا... لم يكن هذا صوت سمسم بل الدرويش الأمرد الجوال، فحاولت وردة أن تقبل يديه لكنه منعها
- لكن كيف يمكنني أن أشكرك ؟ إني أدين لك بالشيء الكثير
- انك لا تدينين لي بشيء، إننا لا ندين لأحد بشيء إلا له. يبدأ بعض الناس حياتهم بهالة متوهجة لكنها سرعان ما تبدأ تفقد بريقها وتبهت. لقد فقدت هالتك أنت بريقها لأنك أقنعت نفسك طوال هذه السنوات بأنك قذرة من الداخل والخارج.
- لست قذرة، ألا تعرف ماذا أفعل لكسب رزقي
- ما الذي يجعلك تظنين أن أحدا من الرجال الذين أخرجوك من المسجد اليوم هو أقرب منك إلى الله؟ يجب أن تعرفي أن كل شيء مرتبط ببعضه بعضا في هذا الكون. فلسنا مئات وآلاف من الكائنات المختلفة، بل إننا جميعا شيء واحد

وهذه قاعدة من القواعد الأربعين:

"إذا أراد المرء أن يغير الطريقة التي يعامل بها الناس فيجب أن يغير أولا الطريقة التي يعامل بها نفسه. وإذا لم يتعلم كيف يحب نفسه حبّا كاملا صادقا فلا توجد وسيلة يمكنه فيها أن يُحبّ، لكنه عندما يبلغ تلك المرحلة سيشكر كل شوكة يلقيها عليه الآخرون، فهذا يدلّ على أن الورود ستنهمر عليه قريبا."

- كيف يمكن للمرء أن يلوم الآخرين لأنهم لا يحترمونه إذا لم يكن يعتبر نفسه جديرا بالاحترام

وأضاف شمس  و تابع :
- إن الماضي دوامة ، إذا تركته يسيطر على لحظتك الحالية فانه سيمتصك ويجرفك. ما الزمن إلا وهم فحسب، وكل ما تحتاجين إليه هو أن تعيشي هذه اللحظة بالذات، هذا كل ما يهم.

"لا تسري مع التيار، بل كوني انت التيار"

وهذه قاعدة من القواعد الأربعين


أخوكم
رياض الشيخ باقر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق